14 سبتمبر 2025

تسجيل

مكة (أم القرى) .. عبقرية المكان (3)

10 يوليو 2014

وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد، متحرراً من كل سلطان عليه في نشأته، خارج عن طبيعته. في وسط هذه الخلخلة كانت للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة. كان النظام القبلي هو السائد. وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام، فلما قام محمد – صلى الله عليه وسلم – بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له، ووجد من التوازن القبلي فرصة، لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد – صلى الله عليه وسلم – وهم على غير دينه. بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة، وتدع تأديبه – أو تعذيبه – لأهله أنفسهم. والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم، ومن ثم كان أبو بكر – رضي الله عنه – يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم، فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء، وتمتنع فتنتهم عن دينهم.. ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد. ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة، وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها. وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان محضن هام لبذور النهضة، وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب، وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف إمبراطوريتي كسرى وقيصر، وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال، المذكورتان في القرآن في قوله تعالى: "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"..وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة، فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله، ووجه هذه الطاقة المختزنة، التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح، ففتحها الله بمفتاح الإسلام وجعلها رصيداً له وذخراً. ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة والعباس وأبي عبيدة وسعد ابن أبي وقاص وخالد ابن الوليد وسعد ابن معاذ، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام، ففتحت له، وحملته، وكبرت به من غير شك وصلحت، ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام. وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة، وصيانة نشأتها، وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها، مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة، التي جاءت للبشرية جميعها. وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة – صلى الله عليه وسلم – فذلك أمر يطول، ومكانه رسالة خاصة مستقلة. وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة، التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة. وهكذا جاء هذا القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها. فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام، وخلصت كلها للإسلام، حملت الراية وشرقت بها وغربت، وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها، للبشرية جميعها – كما هي طبيعة هذه الرسالة – وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها، وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها، لذا استطاعوا خلال نصف قرن أن يفتحوا نصف العالم.