12 سبتمبر 2025

تسجيل

في بعض الأحيان... يعرف الحق بالرجال

10 يوليو 2012

رغم أن القاعدة التراثية تنصح بأن يُعرف الحق ثم يُعرف أهله وألا يُعرف الحق بالرجال، إلا أنه في كثير من الأحيان يحدد المصريون موقفهم من أمور معينة بالمخالفة لهذه القاعدة، فعندما يتواطأ من عرف عنهم التلون والمشاكسة ضد قرار ما، يعرف المصريون أن الحق في صف هذا القرار. ربما يكون هذا نزعة صوفية لا يمكن تبريرها على نحو عقلاني، ولكنها تمثل، في الوقت نفسه، الوسيلة الوحيدة التي تصلح حينما تختلط الآراء وتتباين التحليلات ويشتبه الحق بالباطل فلا تكون ثمة وسيلة إلا معرفة الحق بأهله ومعرفة الباطل بأهله. ويمكن الزعم بأن هذه النزعة قد آتت ثمارها في الأزمة التي صاحبت القرار الأخير، الذي اتخذه الرئيس المصري بخصوص التراجع عن حل مجلس الشعب بناء على حكم المحكمة الدستورية العليا. فرغم اختلاط الموقف على الكثيرين بسبب الانقسام حول تأويل القرار ومدى ملاءمته ومناسبته للأوضاع التي تمر بها البلاد، إلا أن الكثيرين صاغوا موقفهم بالنظر إلى من ساندوا القرار وإلى من عارضوه، بعبارة أخرى أتاحت نوعية المعارضين لقرار رئيس الجمهورية معيارا مريحا وسهلاً لاختيار الجانب الذي يمكن للمرء أن يقف فيه وهو مرتاح الضمير. فقد اجتمع في خانة المعارضين لقرار رئيس الجمهورية زمرة من المتلونين والموالسين والمتحولين ممن عارضوا الثورة في بدايتها ثم زايدوا عليها لاحقا، أو ممن طالبوا المجلس العسكري في بداية المرحلة الانتقالية بالبقاء في السلطة إلى أمد غير معلوم، أو ممن اعترضوا على معظم خطوات نقل السلطة واستبد بهم الفزع كلما اقتربت المرحلة الانتقالية من الانتهاء. هذه المعارضة الغيورة على دولة القانون والدستور هي نفسها التي سكتت على الكثير من الانتهاكات القانونية وأبرزها الإعلان الدستوري المكمل الذي كان أوضح في مجافاته للمنطق القانوني من القرار الرئاسي الأخير. لقد كان المصريون بحاجة إلى سماع تحليلات منطقية حول مدى قانونية القرار، ومدى اتساقه مع متطلبات المرحلة وذلك لكي يكونوا وجهات نظر محددة بخصوصه، فإذا بهم يستمعون إلى قائمة طويلة من الهجاء الذي عبر عن حالة نفسية محتقنة إزاء احتمالات عودة البرلمان ذي الأغلبية الإسلامية بأكثر مما عبر عن حالة عقلية سليمة تقوم على تقييم وتحليل القرار وإعطاء الرأي القانوني بخصوصه. وليس من تفسير لذلك إلا أن هذه التيارات مصرة على أن تفقد كل ذرة ثقة كانت الجماهير المصرية قد أودعتها إياها في وقت سابق. فعلى مدار الأيام التي تلت إصدار القرار ارتفع صوت الهجاء وغاب صوت العقل، وتفرغ الكثير من القانونيين والمعلقين لصياغة حفنة من أوصاف الذم بحق القرار، فوصفوه بأنه غير دستوري وغير قانوني، ووصل الشطط بالبعض إلى حد دعوة العسكر إلى الانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة، أو إلى محاصرة قصر الرئاسة. وتفرغ كثير ممن وصفوا أو سموا أنفسهم بالفقهاء الدستوريين لكيل عبارات لا تمت لشرف المهنة القضائية بصلة، فمن بين قائل إن ما حدث هو بلطجة سياسية، وبين واصف له بأنه ترقيع قانوني، وما بين قائل إن الرئيس قد جرد نفسه من منصبه وبالتالي لم يعد رئيساً للجمهورية ومنهم من طالب بمحاكمة وفقاً للمادة 123 من قانون العقوبات التي تنص على معاقبة من يمتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية بالحبس! والغريب أن كثيرين ممن تصدوا لهذا القرار أعفوا أنفسهم من عبء الاضطلاع على تفاصيله، أو هم ربما اضطلعوا عليه وأبوا إلا أن يدلسوا على الناس بأن ينقلوا إليهم صورة مشوهة عما تم إصداره. فالقرار تضمن سحب قرار المجلس العسكري باعتبار مجلس الشعب منحلا، وعودة مجلس الشعب المنتخب لعقد جلساته وممارسة اختصاصاته المنصوص عليها بالإعلان الدستوري 2011، وإجراء انتخابات مبكرة خلال 60 يوما من إقرار الدستور الجديد والانتهاء من قانون مجلس الشعب. وعليه لا يكون رئيس الجمهورية قد أهدر أحكام القضاء ولم يخالف حكم المحكمة الدستورية، غاية ما هنالك أنه أرجأ تنفيذ الحكم لحين الانتهاء من وضع الدستور وهذا حق أصيل للرئيس الذي أعاد السلطة المنتخبة لمزاولة أعمالها وسحب الشرعية من المجلس العسكري بوصفه غير ذي صفة، ولكن هؤلاء المعارضين أبوا إلا أن يصوروا القرار للمصريين على أنه إهدار لحكم المحكمة الدستورية العليا وضرب لدولة القانون في مقتل. صحيح أن عقول المصريين مازالت مليئة بالكثير من الأسئلة حول مصير القوانين التي يمكن أن يتمخض عنها البرلمان العائد من الحل، بموجب هذا القرار، إذا ما تم الطعن عليها بعدم الدستورية، وحول ما إذا كان القرار قد تم صدوره بالتشاور مع العسكر أم أنه قد فاجأهم كما فاجأ عموم المصريين، ولكن الأمر الذي بات الجميع متأكدين منه أن هذا القرار يمثل عينة لنوعية العقبات التي تنتظر الرئيس في المستقبل من النخبة والإعلام والفلول، فهذا الخليط يبدو أنه من المستحيل أن يجتمع على حق، ويبدو، من ثم، أنه من غير الممكن استرضاؤه. وعليه فإن على الرئيس الجديد أن يتخلى عن محاولة التوافق مع هذه القوى المشاكسة، والتي اتضح الآن بجلاء أنها لن تضيع أي فرصة لعرقلة الرئيس الجديد إلا وستستغلها على نحو يضرب في الصميم مفهوم دولة المؤسسات التي يطمح إليها غالبية المصريين.