29 أكتوبر 2025
تسجيلأين أصبحت القومية العربية والفكر القومي العربي بعد مرور مائة عام بالشهر والسنة على انعقاد "المؤتمر العربي" في "الجمعية الجغرافية" في سان جيرمان باريس في يونيو 1913؟ هذا السؤال الكبير ومتعدد الجوانب ومرير الإجابة هو ما تناوله نحو أربعين مثقفا ومثقفة قبل أيام في نفس المدينة باريس. وفي قاعات المعهد العربي عند التقاء شارعها الأشهر السان جيرمان مع نهر السين. التأمت ندوة "مائة عام على القومية العربية: رؤى نقدية وآفاق مستقبلية". وبجهد تنظيمي وإداري مبهر من قبل الأكاديمية الفلسطينية نهى خلف التي كانت وراء فكرة عقد الندوة. ليحاول من اجتمع فيها استدعاء روح فكرة كانت مليئة بالحيوية والنشاط والأمل. ومثلت حلم العرب للتحرر من قبضة الاستبداد التركي واستعار حملة التتريك التي رافقت انهيار العثمانية. ولمجابهة الاحتلال الكولونيالي الذي كان يقف على الحدود منتظرا لحظة الانهيار الأخير لدولة الآستانة وليرث أراضيها والبلدان التي سيطرت عليها. "مؤتمر باريس" الذي انعقد في مناخ سياسي اتسم بالاضطراب الإمبراطوري الهائل. وصراع القوى الكبرى على أرض العرب. حضره 23 مندوبا كانوا أساسا من بلدان المشرق. سوريا والعراق. ولبنان. وفلسطين. ومراقبون من مصر وأقاليم أخرى. ودوما يُشار إلى الخمسة الذين كانوا المنظمين الفعليين للمؤتمر وأصحاب فكرته وقادته وهم في جلهم شباب في مطلع حياتهم المهنية والسياسية وكانوا من الطلبة العرب في فرنسا. وهم: عبد الغني العريسي. ومحمد المحمصاني وتوفيق الفايد من بيروت. وعوني عبدالهادي من نابلس. وجميل مردم بيك من دمشق. كان أولئك الرياديون مهجوسين بصعود تيار الاتحاديين القومي التركي في اسطنبول الذي تبنى خط التتريك ودأب على احتقار العرب. وتغول في البطش في نخبتهم كما فعل جمال باشا الجزار الذي ساق عشرات من مثقفيهم ومفكريهم ونشطائهم إلى مقاصل الإعدام ومنهم عدد من الذين شاركوا وقادوا مؤتمر باريس. وضع المؤتمر أربع قضايا رئيسية على أجندته رآها المجتمعون الأكثر خطرا وإلحاحا على واقع العرب ومستقبلهم آنذاك هي: الاحتلال الأجنبي والنضال الوطني. حقوق العرب في الإمبراطورية العثمانية. ضرورة الإصلاح والحكم الذاتي. والهجرة من وإلى سوريا (الكبرى).في تلك الحقبة الفكرية الحساسة والحاسمة في الفكر العربي كانت تتبلور أفكار متعددة إزاء تشكيل مستقبل العرب والعلاقة مع ما تبقى من الدولة العثمانية. والتحسب لشرور الأطماع الأوروبية. كان ثمة تيار الانفصال عن الدولة التركية والتحرر الكلي منها وتشكيل دولة عربية موحدة في دول المشرق. وكان ثمة تيار اللامركزية الذي لم يذهب إلى حد المطالبة بالانفصال لكنه ناضل كي ينال العرب نوعا من الاستقلال والحكم الذاتي في الإطار الفضفاض للعثمانية. ويمكن وضع "مؤتمر باريس" وتوجهه السياسي والفكري في إطار تيار اللامركزية. ذلك أن المؤتمرين كانوا يريدون الحفاظ على توازن دقيق بحيث لا يُنظر لهم على انهم دعاة انفصال عن الدولة العثمانية وبالتالي يساعدون في انهيارها الذي يلوح في الأفق. وفي الوقت نفسه لا يريدون استفزاز ولفت انتباه الدول الغربية عبر دعوات إقامة دولة عربية واحدة. لاسيما وأن جيوش تلك الدول الطامعة تلوح في الأفق أيضا. لكن لا يعني ذلك أن روح المؤتمر كانت مهادنة أو غير نقدية. بل هاجمت السياسة التركية وازدرائها للعرب وطالبت الأستانة باحترام العرب ومنحهم التمثيل السياسي اللائق في الدولة والحكم. ونرى ذلك في اقتباسات من كلمة عبد الغني العريسي أحد رواد ومنظمي المؤتمر حيث يقول: "إن العرب تجمعهم وحدة لغة ووحدة عنصر ووحدة تاريخ ووحدة عادات ووحدة مطمح سياسي. فنحن عرب قبل كل صبغة سياسية. حافظنا على خصائصنا وميزاتنا وذاتنا منذ قرون عديدة. رغما مما كان ينتابنا من حكومة الآستانة من أنواع الإدارات كالامتصاص السياسي أو التسخير الاستعماري أو الذوبان العنصري.. تعودت هذه الحكومة أن تعامل الجنسيات العثمانية معاملة الغالب والمغلوب على قاعدة "حق الفتح". فنحن نصرح على رؤوس الأشهاد بأنه إذا كان في استطاعة الحكومة أن تدعي "حق الفتح" في بلاد البلقان مثلا. فلا تستطيع أن تدعيه لاحقا ولا حقيقة في البلاد العربية.. نحن قاعدة هذه الدولة من قبل ومن بعد لا أسرى مسخرون.. فلا أرض بعد اليوم تُستعمر ولا أمة تُسخر. فإنما نحن الرعاة لا الرعية". القراءة الاسترجاعية المتأنية لـ "مؤتمر باريس" تعيد تأكيد فكرة أساسية حول تبلور فكرة القومية العربية والوحدة العربية في سياق تطور النزعات التحررية العربية من السيطرة العثمانية التركية في المرحلة الأولى. ثم من السيطرة الكولونيالية اللاحقة في المرحلة الثانية. وفي قلب اللحظة "التحررية" المديدة والطويلة تطورت فكرة "الوحدة العربية" بكونها المشروع البديل للسيطرتين التركية والغربية. فلعبت تلك الفكرة دور الحلم الذي جمع القوى العربية المعارضة للسيطرة الأجنبية. معنى ذلك أن تلك الفكرة كانت نضالية وذات طابع تحشيدي وحالمة منذ البداية. ولم يتم اختبار عمليتها على أرض الواقع إلا في مراحل لاحقة. وكما هو الحال في كل حالة مقاومة أو ثورة (مثلا لحظة ميدان التحرير في مصر في الانتفاض على حكم حسني مبارك مثلا) تتوحد القوى العريضة وراء فكرة متعالية عن بشاعة الواقع. وغالبا ما تكون حالمة وغائية. لكنها تمتلك طاقة توحيدية هائلة وإن كانت مؤقتة. وتعمل على إزاحة الخلافات البينية جانبا من ناحية. وعلى تقريب المسافة النظرية والتخيلية بين غائية الحلم وبشاعة الواقع. أي أن الشعور الوحدوي أو التوحيدي عند شرائح النخب العربية كان ضد العثمانيين ومُستفزا بوجودهم وسياساتهم. بيد أنه لم يكن شعورا مسنودا بوقائع تاريخية. أو حقائق صلدة على الأرض. بعيدا عن الوجدان والمشاعر والعواطف. الوحدويون العرب بنو مشروعا سياسيا يقوم على تجربة العداء المشترك للآخر المتسلط عليهم. وكان ذلك كافيا لتوليد طاقة إيجابية كبيرة في مجال مقاومة عدو مشترك. ولكن لم تكن الوقائع على الأرض تؤكد على فعالية تلك الفكرة كي تخلق بديلا يحتل مكان الاستعمار في حال رحيله. منذ "مؤتمر باريس" وحتى هذه اللحظة يمكن الآن التمييز بين نوعين من القومية العربية. أو لنقل بين نوعين من العروبة: العروبة السياسية (السيادية). والعروبة الثقافية. الأولى مهجوسة بالغاية النهائية والهدف وهو الوحدة العربية. وعملية اختلاق وفرض الآليات لتحقيق ذلك الهدف. والثانية عفوية و "طبيعية" تعكس تفاعل أبناء المنطقة مع بعضهم البعض لغويا وثقافيا وتجاريا. وإحساسهم بوجدان مشترك وتخليقهم لفضاءات موحدة بحكم الواقع وحركة الأشياء (في الإعلام والثقافة والفن والغناء). وهي فضاءات تتداخل مع طموحات سياسية غير واضحة الملامح. لكنها تعيد تأكيد خاصية التأثير والتأثير المُتبادل بين الجماعات والشعوب العربية كما توضح في ثورات الربيع العربي التي أثرت في بعضها البعض. والاختلافات في سيرورتي العروبة السياسية والعروبة الثقافية تحتاج إلى تأمل أعمق وحديث موسع قادم.