17 سبتمبر 2025

تسجيل

فتافيت أم بطة!

10 يونيو 2013

وأنت في درب الحياة سائر، قد ترى صدفة لقطة لا تعيرها أدنى انتباه، ثم يحدث بعدها بعمر طويل ما يستدعيها، فتسترجعها طازجة بكل ما كان فيها وحولها ومعها! لقطة هذا الصباح لأم بطة، التي كانت تحتل ناصية الشارع بأعز ممتلكاتها (قفص كبير) تنشر فوقه خضراواتها الورقية فجل، خس، جرجير، بصل، لا تظهر إلا ساعة العصاري، بورفؤاد كلها تعرف (أم بطة) التي كانت لها حصانة خاصة، فلا أحد يزيحها من مكانها، ولا حملات البلدية تستطيع بكامل طاقمها أن تهشها من موقعها المميز، أم بطة حالة خاصة يتعاطف معها الرائح والغادي، فهي أم اليتامى التي تسعى على رزقها لإطعامهم وقد تجاوزت الستين، أخاديد الوجه، وهالات العيون المتعبة، والكفَّان المعروقتان، تشي خشونتهما الجارحة بشقاء عمر طويل، الآن أتذكر تقاطيع وجهها الغائب بكل تفاصيله وحالها وهي تتربع أمام قفصها مرتدية جلباباً أسود امتقع لونه من كثرة ما ضربته الشمس، وعلى رأسها طرحة ثقوبها لا تعد، وبصوت مبحوح تنادي (ورور يا فجل) أمامها كنت أقف لأشتري خضار السلطة، فألحظ دائما أن أكلها الذي تضعه في حجرها رغيف أسمر وقطعة جبن قريش وأعواد من السريس، كانت إذا أكلت تساقطت فتافيت الخبز في حجرها حتى إذا ما انتهت دست يدها في حجرها وجمعت فتافيت الخبز في كفها لترفعها إلى فمها، تمضغها وتكرر لم الواقع منها ولا تكاد تترك فتفوتة واحدة، وإذا ما استعجلها أحد الواقفين استمهلته وهي تبتسم (يا حبيبي صبرك شويه اللي يلم النعمة تلمه) نضحك على فمها الخالي من أسنانه إلا قليلاً، ثم نأخذ من حزم الخضار ما نأخذ بينما تضع باقي النقود في أكف الصغار وتوصيهم بالقبض عليها جيداً حتى لا تقع، نشتري ونمضي، وصوتها يسري وقد غابت الشمس (ورور يا فجل) ساعة من الليل تمضي وبعدها تقف (أم بطة) لتنفض جلبابها، وتحمل قفصها الفارغ فوق رأسها بعد أن باعت ما جاءت به، تمضي أم بطة ومعها حكاية من شقاء الشيخوخة التي تضرب في طرقات الدنيا بضعفها، ومرضها من أجل لقمة تضعها في فم الصغار، الآن تحضر صورة (الجدة) الحاضنة للأيتام التي تقول لمن يستعجلها (اللي يلم النعمة تلمه) ليكون كلامها مدهشاً وذا قيمة قد لا نلقي له بالاً، عادت أم بطة لتحتل كادر الصورة في ذاكرتي وأنا أرى خادمة صديقتي تُخرج مع كيس القمامة أكياساً من خبز لم يمس، بعضه ضربه العفن، والآخر يابس، أشكال وألوان توست، وبواقي سندويتشات المدرسة، وقطع من الكيك الناشف، أقسم أن الخبز الخارج إلى حاوية القمامة يأكله فوق كوكبنا بشر كثيرون! رمي الخبز نهج متكرر في بيوت كثيرة، نرمي دون أن نفكر! السؤال هل فكرنا أن نضع أمامنا ما نتصور أننا سنأكله؟ هل فكرنا بتقطيع الرغيف الواحد إلى أربعة أجزاء لنأخذ فقط حاجتنا دون أن نرمي ما تبقى لأن أحدا لا يأكل بواقي أحد؟ هل فكرنا في تحويل بواقي الخبز إلى (بقسماط) بطحنه وحفظه؟ هل فكرنا كم طن خبز نلقي بها إلى الحاويات كل عام؟ وهل نحن إلى هذا الحد عاجزون عن حماية (النعمة) من الهدر والعمل بنصيحة أم بطة الماسية (اللي يلم النعمة تلمه)؟! طبقات فوق الهمس * كنت أفر القنوات، استوقفني الشيخ الدكتور محمد العوضي وهو يحكي حكاية شاب بالمملكة كان غاطساً حتى أذنيه في المعاصي، حيث سحبته الصحبة الفاشلة ليغرق فيما كان فيه، ثم استفاق الشاب فجأة برحمة من الله وتاب وآب معتذراً لربه، في صباح يوم طيب ذهب وحجز في أحد الباصات التي تذهب أسبوعياً للعمرة، ودع أهله، وأدى عمرته على أجمل ما يكون ثم توجه بنفس الباص إلى المدينة، قبل المدينة بعشرين كيلو انقلب الباص، واحترق من راكبيه من احترق، ومن قلب الهلع خرج الشاب وهو مذهول من الحريق، أخذ يصرخ ويصيح (وين القبلة) أراد أحدهم أن يسقيه ماء، لم يأبه بالماء ظل يصرخ (وين القبلة) أشار له من يحمل الماء القبلة أمامك، أراد الشاب أن يسجد لله شكراً على نجاته، خر ساجداً، ولم يرفع رأسه من سجدته! مات التائب وسط ذهول الواقفين! أهذا ما يسمونه حسن الخاتمة؟ * للعدل مفهوم غاية في السمو خلده الشعراء في نهج الفاروق عمر، وقال فيه حافظ إبراهيم: أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت قرير العين هانيها هذا البيت ليس خاصا بالفاروق فحسب إنما يصلح لكل من ساس مجموعة، أو ترأس مؤسسة، أو إدارة، أو موقع عمل، فكان من الجميع على مسافة واحدة دون أدنى تمييز.