27 أكتوبر 2025
تسجيلأثارني تقرير نشرته صحيفة " فايننشال تايمز" البريطانية حول تجربة غريبة حدثت بمدينة هوبارت في أستراليا بطلها رئيس شركة استشارات مالية، شرع في العمل بدوام جزئي بعد أن بدأت زوجته رحلة علاج مع السرطان. حيث وجد رئيس الشركة أن باستطاعته إنجاز الكثير من العمل خلال (خمس ساعات) كما كان يفعل خلال ساعات العمل الثماني السابقة، المعتادة في العالم كله اليوم، وهذا ما جعله يفكر في تعميم التجربة بشركته، وأنه بإمكان أي موظف عنده أن يفعل نفس الشيء. بدأ بتطبيق تجربة العمل لخمس ساعات في اليوم فقط بدون أي تخفيض لرواتب الموظفين، وكان عليهم بدء العمل بين الساعة الثامنة والتاسعة صباحا على أن ينجزوه بحلول الساعة الواحدة أو الثانية بعد الظهر، وبعد ذلك كان معظمهم أحرار في قضاء أوقاتهم كيفما شاؤوا، وبقي مكتب الاستقبال مفتوحاً طوال اليوم لتلبية احتياجات العملاء العاجلة. التجربة أثبتت نجاحها ولم تنهر الشركة، بل إن مديرة العمليات بالشركة وصفت التجربة بأنها تجربة مغيرة للحياة، فقد انخفضت أيام الإجازات المرضية وتم توظيف موظفين جدد موهوبين، وسجل بعض المستشارين مستويات قياسية من الأعمال الجيدة. وأبدت كاتبة التقرير بالصحيفة إعجابها بفكرة ساعات العمل الخمس اليومية لعدة أسباب، منها أنها وضعت حداً لبعض أغلى أوقات العمر التي يقضيها الموظف في العمل المكتبي، مثل الاجتماعات الطويلة أو العبثية التي تحولت بعد تطبيق التجربة الجديدة إلى اجتماعات خفيفة على مستوى المكتب لا تزيد على عشر دقائق أسبوعياً.. ومن المتوقع — كما تقول محررة التقرير — أن تضع ساعات العمل الخمس حداً أيضاً لحماقة مكتبية أخرى ألا وهي البقاء في العمل حتى الساعة الخامسة مساء عندما يكون الموظف قد أنجز كل عمله، لكن عليه الانتظار حتى نهاية الدوام أو لأن المدير لا يزال في مكتبه.. وتضيف كاتبة التقرير فائدة أخرى لنظام الساعات هذا، هو أنه يعترف بالحقيقة الخفية عن بيئة العمل، وهي أن بعض الناس ينجزون عملاً أكثر في ثلاث ساعات مما ينجزه الآخرون في عشر ساعات، ومع ذلك لا يكافأون أبداً على ذلك.. وختمت الكاتبة بأن فكرة العمل اليومي لثماني ساعات تعود لأكثر من قرن من الزمان، وأن هناك شيئاً غريباً بشأن تعلقنا بها، ومع أن فكرة الساعات الخمس قد لا تكون الحل الأمثل للجميع إلا أنها يمكن أن تنجح في العديد من الأماكن أكثر مما نتخيل. تاريخ الثماني ساعات يرجع نظام العمل لثماني ساعات باليوم إلى القرن الثامن عشر مع اشتداد الثورة الصناعية في أوروبا، وخروج الجميع للانخراط في المصانع، رجالاً ونساء وحتى الأطفال، ورغبة الجميع في العمل، عمالاً أو أصحاب مصانع، ما جعل الأمر يصل بالناس للعمل حتى 18 ساعة باليوم، إلى أن جاء أحد النشطاء الاشتراكيين في بريطانيا وكان صاحب مصنع، وهو " روبرت أوين " فبدأ محاولاته لوقف هذا الاستغلال البغيض من أصحاب المصانع للعمال، ورفع شعار تقسيم ساعات اليوم إلى ثلاثة أقسام. ثماني ساعات عمل، ثماني للراحة، وثمان أخرى لبقية مشاغل الإنسان والاهتمام بحياته.. وهكذا ما بين شد وجذب، ولسنوات عديدة، وبعد مطالبات عمالية واحتجاجات، استقر الأمر على ثماني ساعات عمل باليوم بمعدل أربعين ساعة أسبوعياً، مع إمكانية رفع السقف واعتبار ذلك عملاً إضافياً يتطلب أجراً.. قد يتفهم المرء هذا النظام سواء كان ثماني ساعات أو أكثر باليوم، باعتبار أن العمل قبل قرنين كان يعتمد بشكل كبير على المجهود العضلي، كالعمل في المصانع والمزارع وأعمال التجارة الأخرى، لكن مع تطور الزمن والتقنيات وصولاً الى عصر المعلومات والاتصالات والانترنت، وتطور مفاهيم وأساليب العمل في كافة القطاعات، لم يعد مقبولاً الاستمرار على نظام ظهر في ظروف معينة، دون محاولة تطويره وبما يتناسب مع ظروف هذا العصر الذي نعيشه. هذا المطلب صار عالمياً وبدأت جهات عديدة تطرح مثل هذا التساؤل وتبحث في سلبيات وإيجابيات النظام، والتفكير في بدائل أو أنظمة أخرى وايجابياتها. والنموذج الذي بدأنا به المقال هو تجربة عملية أثبتت إمكانية التخلص والتحرر من قيد نظام الثماني ساعات، وبطريقة عملية. ساعات أطول لا تعني إنجازاً أكثر طرحت مسألة العمل لثماني ساعات أو أقل على جمهور المتابعين في تويتر وطلبت المشاركة في استبيان بسيط، يختار كل شخص الوقت المثالي للعمل وبحسب تخصصه وعمله، ووضعت ثلاثة اختيارات، هي خمس أو ست أو ثماني ساعات. شارك حوالي 730 شخصاً في الاستبيان، فاختار 54 % ست ساعات فيما قال 38 % من المشاركين بخمس ساعات، وظل 8 % على النظام الحالي وهو ثماني ساعات في اليوم. وأبدى كثيرون آراءهم وتعليقاتهم، وكانت غالبيتها تدعو إلى ضرورة إعادة النظر في هذا النظام، فالزمن قد تغير وظروفنا البيئة والاجتماعية وكذلك الدينية في قطر تدعونا جميعها لإعادة النظر في عدد ساعات العمل اليومية. اليوم مع التطور التقني وسيطرة الرقمية على أغلب مجالات العمل، لم يعد من الممكن القول بأنه كلما زاد مكثك بالعمل كلما أنجزت، فهذا القول يمكن الاستمرار في ترديده في مجالات عمل معينة كخطوط الإنتاج في المصانع على سبيل المثال، لكن لا يمكنك تطبيق المقولة تلك في مجالات عمل جديدة تعتمد الرقمية أساساً في العمل والإنتاج. بمعنى آخر، تعددت مجالات العمل وتنوعت وصارت أغلبها أعمالاً ذهنية. وحين نقول بأنها ذهنية، فالأمر يختلف عن الأعمال العضلية التي تعتمد الجهد البدني في الإنتاج أكثر من الجهد الذهني. وعلمياً بحسب دراسات عديدة، تبين أن قدرة الموظف في الأعمال الذهنية لا يمكن أن تتعدى أربع ساعات، ففي تلك الفترة يكون الإنجاز، وبعدها سيتحول عمل الموظف إلى أشبه ما يكون بتمضية وقت في روتينيات يومية. أي أن 50 % من وقت الموظف غالباً يكون مهدراً ما بين أحاديث شخصية مع زملاء العمل أو تصفح مواقع على الانترنت أو انهماك مع وسائل التواصل، إلى جانب أوقات أخرى للأكل والشرب والتدخين وقراءة الصحف وغيرها من أنشطة لا علاقة لها بالعمل.. التقنية وتقليص ساعات العمل توقع بعض المحللين الاقتصاديين في ثلاثينيات القرن الماضي، أنه بعد قرن من الزمان ومع التقدم التكنولوجي أن تنخفض ساعات العمل اليومية لتصل إلى 15 ساعة أسبوعياً، بمعدل ثلاث ساعات يومياً بحلول عام 2030.. نعم، لم لا تنخفض وقد تطورت التقنية اليوم عن مائة عام مضت بشكل مذهل، وتطورت أساليب أداء الأعمال. وهذا يؤكد مرة أخرى أن الأمر بحاجة لنوع من التوافق ومواكبة التطور الحاصل في أدوات ومجالات العمل، ويدعو إلى أهمية وضرورة مراجعة أنظمة العمل باستمرار ومنها ساعات العمل، وعدم اعتبار الثماني ساعات أو الأربعين ساعة أسبوعياً، أرقاماً سحرية ومقدسة لا يجوز تغييرها أو مجرد التفكير في تغييرها. تقليل ساعات العمل اليوم مع التقدم التقني الحاصل وتنوع أساليب أداء الأعمال، صار مطلباً ضرورياً، وخاصة إذا أردنا أن يكون التركيز في العمل على إنتاجية الموظف وليست على فترة مكثه بالعمل، وإذا أردنا أيضاً منع الهدر الحاصل في أوقات الموظفين أولاً، والنتائج المترتبة على ذلك ثانياً مثل استهلاك موارد المؤسسة أو الشركة، بالإضافة إلى تأثير طول فترة الدوام على العلاقات الأسرية والواجبات المنزلية والاجتماعية، والآثار السلبية على الصحة بشكل عام. المدارس لها نصيب أيضاً هذه المسألة لا تقتصر على الموظفين، بل أيضاً تشمل طلاب المدارس، الذين تحولت لديهم المدرسة إلى دار مملة، يقضي الطالب بين ثناياها ساعات طويلة، فيها هدر كبير لجهودهم وللعاملين من إداريين ومعلمين.. فإن كانت الاقتراحات بتقليل عدد ساعات العمل إلى ست ساعات للموظفين، فإن خمس ساعات ونصف الساعة ستكون كافية جداً للمدارس، وعلى ذلك نقترح أن يتم دراسة إعادة جدولة الحصص الدراسية وتوقيتاتها، والتركيز على نوعية التعليم وليس كمية ما يتم حشو الأذهان بها. إن ست أو خمس حصص دراسية في اليوم كافية، يتم توزيع الساعات الخمس على تلك الحصص، سواء كانت ست أو خمس حصص، وبهذا سيخف الضغط على الطلاب والمدرسين، وسيجد الطالب وقته ليجتمع بأهله، وسيجد كذلك متنفساً للراحة وأن يعيش حياته، بالإضافة إلى واجباته المدرسية، وليس كما الواقع اليوم، الذي أرجو أن يتم فعلياً تغييره للموظفين والمدارس. إن الاستثمار الرائع للتقنية في وزارة مثل الداخلية وتقليص الأعمال الورقية إلى رقمية، يدعونا الى التفكير جدياً في مسألة إعادة تقييم نظام عدد ساعات العمل اليومية. وهذا الأمر مرفوع لجهات الاختصاص لبحثه ودراسته، والله سبحانه بكل جميل كفيل، والهادي إلى سواء السبيل.