14 سبتمبر 2025
تسجيل"لم أرَ على مدى عقدين من الزمن قضيْتهُما في واشنطن هذه الدرجة من الاستنفار. يصدقُ الأمر على الحكومة [الأمريكية] بسلطتيها التنفيذية والتشريعية، ومعها أجهزة الأمن والاستخبارات على أنواعها، مروراً بمراكز الأبحاث والدراسات Think Tanks المنتشرة في العاصمة، وانتهاءً بالسلك الدبلوماسي فيها". بهذه الكلمات عبَّرَ دبلوماسيٌ عربيٌ رفيع المستوى في العاصمة الأمريكية عن أجواء هذه المدينة خلال الأسابيع القليلة الماضية، وتحديداً، منذ اليوم الأول لاستلام الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في السعودية.ثمة (تغيبر) هائل تشعرُ الأوساط المذكورة أعلاه أن المنطقة العربية تعيشهُ منذ القرارات الملكية التي صدرت بعد ساعات من تلك اللحظة التي أصبحت تاريخيةً بكل المقاييس. مايرمي إليه الدبلوماسي الصديق أن كل الجهات ذات العلاقة بشؤون الشرق الأوسط في واشنطن، وهي أكثرُ من أن تُحصى.. تبذل جهداً غير مسبوق في ملاحقة المتغيرات الواسعة التي تنتج عن تلك القرارات عملياً على أرض الواقع."لقد بتنا نترقب مساء كل يوم [في واشنطن حيث يكون الوقتُ فجراً في المملكة] احتمال أن نسمع قرارات جديدة" قال مسؤولٌ في الخارجية الأمريكية تعليقاً على كلام الدبلوماسي العربي، ثم تابع: "هذا أمرٌ جديدٌ تماماً في تلك المنطقة من العالم. لسنا هنا معتادين أبداً على هذه الديناميكية السياسية التي تصدر عن القيادة السعودية الجديدة. ومن اتصالاتنا بكثيرين في المنطقة، يبدو أنها [أي الديناميكية الجديدة] تصيب البعض بالدوار والحيرة.. لكن الواضح في النهاية أن الجميع يستوعبون تدريجياً ماجرى ويجري، ولايبدو ثمة خيارٌ آخر سوى السيرُ في نفس الاتجاه.. قد يكون الأمر مبكراً، لكن البعض يتحدث هنا عن نمطٍ مختلف من القيادة في المنطقة ربما ينتج عنه زمنٌ عربيٌ جديد".لايكفي مقالٌ لاستعراض التحليلات والآراء والتوقعات التي تنتشر بشكلٍ كثيف في العاصمة الأمريكية بخصوص التغييرات المتسارعة التي تجري في الشرق العربي وجواره، لكن أيﱠ مُطلعٍ على أجوائها يعرف أنها باتت مايُسميه الأمريكان (حديث المدينة). وإذ تتباين تلك التحليلات والآراء بخصوص الموضوع، إلا أن هناك شبه إجماع على ثلاث قضايا.فأولاً، وقبل كل شيء، لايُنكرُ المراقبون أن الملك سلمان كان الرجل الذي ألقى مؤخراً حجراً كبيراً في المياه الراكدة، حين يتعلق الأمر بممارسة السياسة، الخارجية والداخلية، بمفهومها العربي.ثم إن هؤلاء يؤكدون على المفارقة التي تتمثل في أن (الاصلاح العربي) الذي قاده الملك حصل، وبسرعةٍ قياسية، في وقتٍ يُمثل قمة النشوة الإيرانية الناتجة عن وَهمِ الإيرانيين بإتمام سيطرتهم على المنطقة، وهذا ما أصابهم بصدمةٍ سياسية لاتزال آثارها واضحةً سياسياً وميدانياً وإعلامياً. وهو مايدفع الأمريكان أيضاً لمراجعة تحليلاتهم السابقة..أخيراً، لايستغرب المراقبون، إذا استمرت مسيرة القيادة على ماهي عليه، حصول تغييراتٍ شاملة في المنطقة يمكن أن تصب في صالح العرب، على مستوى الشعوب والحكومات، وبتوازنات جديدة خلاقة يمكن أن تستوعب كل الفوضى السائدة في هذه المرحلة.هنا، تبدو الإمكانية كبيرةً لتغيير (قاعدةٍ) يحاول البعضُ تثبيتها تقول بأن (الربيع العربي) مدخلٌ للفوضى، وأن الهدف الوحيد منه يكمن في الانقلاب على الحكومات والأنظمة. فمع الشعبية الكبيرة في العالم العربي لقرارات الملك سلمان، وفي ظل رؤيةٍ سياسية خلاقة يمكن صياغتها بالتنسيق مع قطر وأخواتها في مجلس التعاون، يمكن القول أن (الربيع العربي) خلق عملياً ظروفاً جديدة وواقعاً مختلفاً، يمكن توظيفهما بتوازن في ابتكار سياسات عربية جديدة، داخلية وخارجية، تحقق مصالح الشعوب والحكومات على حدٍ سواء.وإذ يتصاعد الحديث، والتحضير، للقمة الخليجية الأمريكية القادمة، يتردد في واشنطن أن المعنيين فيها أخذوا علماً بجدية التحضير الذي يقوم به الخليجيون بقيادةٍ سعودية. وقد جاء الاجتماع التشاوري للقمة الخليجية منذ أيام بمثابة رسالةٍ قوية في هذا الإطار، إنْ لجهة انعقادها بطريقة تُظهر إصرار الخليجيين على الحديث بصوتٍ واحد.. أو من حيث المشاركة الرمزية (المُعبِّرة) للرئيس الفرنسي، والتي تؤكد آفاق التحالفات الإقليمية والدولية التي تنسجها السعودية، ومعها الخليجيون، حول الرؤية السياسية الجديدة. ثم إن القرارات الختامية للقمة جاءت واضحةً في تأكيد المواقف الخليجية، بشكلٍ صارم، خاصةً في القضايا الخلافية مع الولايات المتحدة.هنا، تحديداً، كان القرار الجماعي المُعلن للقمة بعقد مؤتمر للمعارضة السورية في الرياض للتحضير لترتيبات مابعد رحيل الأسد، وقبلَها كلام الملك سلمان الصريح والواضح بأن الأسد ليس له مكانٌ حتى في المرحلة الانتقالية، نقطة حسمٍ استراتيجية للموضوع السوري الذي تشكل مآلاته مدخلاً رئيساً للتعامل مع الموضوع الإيراني الأكثر حساسيةً في الحوار القادم مع أوباما.لهذا، تبدو الحاجة مُلحةً لأن تفهم المعارضة السورية، بأي طريقة.. الأبعاد الاستراتيجية للوضع الراهن.. علَّها تتصرفُ بطريقةٍ تليقُ بِجِّدية الحدث.. فمع الزخم السياسي والعملياتي الذي خلقته دول الخليج فيما له علاقة بالموضوع السوري، ومع الاستعداد الواضح لدى المقاتلين على الأرض للتضحية من جانب، والإنجاز من جانبٍ آخر، ووحدة الصفوف من جانبٍ ثالث، تبقى المعارضة السياسية، في غالبيتها، بمثابة (خاصرةٍ رخوة) في المشهد الجيوسياسي لايمكن السماح ببقائها على هذه الحال.وأحد أمثلة ممارساتها غير المدروسة يتجلى في طريقة التعامل مع مبعوث الأمم المتحدة ستيفان ديمستورا في جنيف. فرغم أن الرجل يذكرنا بشكلٍ مخيف بنظيره جمال بنعمر ودوره الهدام في اليمن، تتهافت بعض أطراف المعارضة على لقاءاته (السرية) في جنيف، والتي سيكتب بعدها تقريراً للأمم المتحدة يشرح فيه ماذا يريد السوريون ومَن يمثلهم! الأسوأ أن يجري هذا دون استخدامٍ ناضج ومُوحَّد، سياسياً، للورقة السياسية الكبيرة التي أعطتها القمة الخليجية للسوريين في قرارها الشهير بخصوص مؤتمر الرياض الصادر قبل لقاءات جنيف بيوم، وأن تستمر فوضى جنيف بأقل درجات التنسيق حتى مع قيادة الائتلاف نفسها. وهذه بمُجملها صورةٌ تُظهر الحاجة للملمة صف المعارضة السورية بحسمٍ وسرعة، لأن هذا يمثل عنصراً في ترتيبات التحضير لقمة أوباما وقادة الخليج.تُعجب الثقافة الأمريكية، من القمة للقاعدة، بمعاني القوة والحزم، وتَحترمها، وتحترم أصحابها. وتتعامل معهم بنديةٍ أياً كانت آراؤهم. يظهرُ هذا بوضوح في الحوارات الدائرة في واشنطن عن الوضع العربي. وإذا كان أوباماً رَجُلَ (الواقعية) الأكبر الذي يأخذ المُعطيات على الأرض في حسابه، فإن تَعامُلَ الخليجيين معه في القمة القادمة بناءً على الأمرين السابقين يُرشِّحانِها لتكون، فعلاً، بداية زمنٍ عربي جديد.