19 سبتمبر 2025

تسجيل

صحافة في مواجهة حكم الفرد

10 مايو 2014

أمام محكمة الرأي العام السوداني وقف ولاة الولايات السودانية وهم يواجهون كتاب إخفاقاتهم وإنجازاتهم، بيد أن نصيب الإخفاقات كان عظيما.. على مدى أسابيع نشرت صحيفة (الصيحة) سلسلة حلقات تناولت أداء كل والٍ من الولاة ولاقت المعالجة الصحفية لأدائهم اهتماما كبيرا على المستويين الرسمي والشعبي.. في مقابل ذلك واجهت الصحافة السودانية في عمومها حملة (حقد) حكومي كما تواجهه من قبل إلى درجة تشكيك بعض المراقبين في قدرة الحكومة على تحمل هامش الحرية الصحفية الذي أطلقته أكثر من شهر.. المسؤولون الذين أقضت كراسيهم الصحافة هم الذين يتصدون اليوم وبمختلف الأسلحة غير المشروعة للصحافة والصحفيين.. أبشع أنواع حكم الفرد يمارس اليوم في تلك الولايات البعيدة والمستعصم حكامها بالإعلام الحكومي الولائي (تلفزيون وإذاعة).. إحدى القنوات الفضائية الولائية جعلت من حاكم الولاية خطاً أحمر وتبارى الإعلاميون الحكوميون في الزود عن الوالي عبر رسائل إعلامية ركيكة المحتوى معدومة التأثير.. ما من شك أن الإعلام الرسمي لتلك الولاية أخذ بمقولة نعوم تشومسكي التي يقول فيها إن الإعلام يخدم مصالح الدولة وسلطان المؤسسات الكبرى، وهي مصالح ترتبط معا برباط وثيق، ويؤطر الإعلام تقاريره وتحليلاته بطريقة تدعم الامتيازات القائمة وتحد من النقاش والبحث تبعا لذلك.. يريد ذلك الإعلام المأزوم بسلطة الفرد أن يقول لمواطن الولاية الذي تمسك بتلابيبه الأمراض الفتاكة: اصمت إلى الأبد!إياك أن تتخذ قرارك...أن ترفع صوتك...أن تعلي صرختك...أن تعلن موقفك...أن تمارس إنسانيتك!اصمت...فالصوت موت والصمت حياة!على مستوى العالم ذاق السياسيون مرارة تجاوزاتهم بسبب المثابرة الصحفية وتخلص الناس من رجال كانوا على سدة السلطة يلبسون أقنعة العفاف والطهر وما هم كذلك.. في الولايات المتحدة الأمريكية تقدم مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) ديفيد بترايوس، باستقالته بعد محاصرة الصحافة له بسبب علاقةعاطفية قد تكون قد شكلت تهديدا للأمني القومي الأمريكي وذلك بعد 14 شهرا من توليه منصبه.. في إيطاليا كشفت الصحافة الغطاء عن أكبر فضيحة جنسية في أوروبا، هي تلك التي طالت رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني، التي عرفت باسم"روبي غيت".. الصحافة الأمريكية أجبرت حكام ولايات وشيوخاً وأعضاء في مجلس النواب، وكثيرا منهم على الاعتذار علناً واضطروا إلى تقديم استقالاتهم من مناصبهم.. كانت قضية التحرش الجنسي لرئيس صندوق النقد الدولي، الفرنسي دومينيك ستراوس وترتب على محاكمته في أمريكا فتح ملفات سابقة لدومينيك ستراوس كان، ومن بينها قضية أخرى في فرنسا.. صحيح أن ستراوس تمكن من الإفلات من فضيحته مع العاملة في الفندق، إلا أن الفضيحة أجبرته على الاستقالة من منصبه، وتعرضت فرصته في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لضربة قوية دمرت مستقبله السياسي. قناعتي أن الإثارة الصحفية ليست كلها جريمة، بل مطلوبة بقدر معقول لتسويق المادة الصحفية وهي أحد أهم عناصر الخبر الصحفي.. وأذكر هنا واقعة عايشتها في صحيفة ألوانالسودانية في مبتدأ حياتي المهنية، حينها استخدم رئيس التحرير، مرة الإثارة في مثال قوي للاستخدام (الحميد) للإثارة إن جاز التعبير.. ففي العام 1987م كتب الزملاء في القسم الرياضي (مانشيتا) نمطيا عن مباراة بين أكبر ناديين في البلاد هما الهلال والمريخ وجاء في في عنوان ذلك الخبر الرياضي (المريخ يكسب الهلال هدف مقابللا شيء)، وكان حينها يلقب مؤيدو فريق المريخ بـ(الصهاينة) فيما كانت الأخبار السياسية مفعمة بأحداث انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين الجريحة.. شعار المريخ (النجمة) الخماسية أقرب لنجمة داوود السداسية عند الصهاينة.. المباراة تخللها احتجاج من جماهير الهلال على حكم المباراة وقد أمطروا الملعب بحجارة كثيفة كحجارةطير الأبابيل.. جاء رئيس التحرير والصفحات في طريقها إلى المطبعة، لكنه أوقفها وغير (مانشيت) الرياضة إلى (الصهاينة يحبطون ثورة الحجارة)، وجعله أيضا (مانشيتا) رئيسياً للصفحة الأولى التي كان عادة ما يتصدرها (مانشيت) سياسي. من المحزن أنه يبدو أن حكومة الخرطوم (سعيدة) بالتداعي المخيف في الجسم الصحفي السوداني، فالوضع الاقتصادي الضاغط بسبب تراجع الجنيه السوداني أمام الدولار لا يصيب الحلقات الضعيفة في العملية الاقتصادية، بل يدمرها تدميرا.. آخر الأخبار زيادة دور المطابع لأسعارها بنسبة بلغت (40%)، والصحف باعتبارها مؤسسات اقتصادية تعتبر أضعف الحلقات.. فإن ماطل المعلن ولم يدفع ما عليه من التزامات للصحف، فإن الصحف ستنشر له رغم ذلك، لأن (الخسارة) حاصلة، سواء نشرت له أو لم تنشر.. فتكاليف الصدور اليومي مستمرة ما دامت الصحيفة تصدر، وليس من المنطق الامتناع عن نشر أي إعلان.. المعلن والشركات واحدة من الحلقات القوية في صناعة الصحافة، يسدد متى شاء وكيفما شاء.. والمطابع تستطيع أن تمنع طباعة أي صحيفة إن تأخرت في دفع ما عليها من التزامات وهي غير معنية بعدم سداد المعلن لالتزاماته تجاه الصحيفة (المسكينة).. بل إن اتفاق (جنتل مان) بين المطابع وبرعاية المجلس القومي للصحافة والمطبوعات وهو مؤسسة حكومية، بأن تلتزم أي مطبعة بعدم طباعة أي صحيفة ما لم تقدم (خلو طرف) أو (صك براءة) من المطبعة التي تطبع فيها الصحيفة..دعم الدولة للصحافة (المزعجة) يتلخص في (المطاردات) التي يشنها مجلس الصحافة على الصحف التي تتأخر في سداد الرسوم السنوية، وديوان الضرائب أبداً لا يتأخر من جانبه في إرهاب الصحف التي تعجز عن سداد الضرائب المفروضة عليها.. الصحفيون هم أشبه بمغامرين لا يجرؤون، ولم يجرؤ أسلافهم، على تقدير نهايات مشوارهم المهني، خصوصاً أن (اللا) استقراريسمُ حياة كل منهم منذ لحظة نشر مقالته الأولى، أو حمله بطاقة من مؤسسته.