14 سبتمبر 2025

تسجيل

معركة الأمعاء الخاوية.. أين نحن منها؟

10 مايو 2012

الأسرى الفلسطينيون المضربون عن الطعام بلغ عددهم حتى كتابة هذه السطور الثلاثة آلاف.. ولهم مطالب محددة أهمها إنهاء سياسة العزل الانفرادي وإنهاء العمل بقانون شاليط والاعتقال الإداري – الاستباقي - غير المحكوم بقواعد القانون.. البعض قد يجادل في أهمية هذا الإضراب وربما يجادل في حليّته – الدينية أو الوطنية - على أساس أن الحياة أهم من المبررات المساقة له.. وعلى أساس أن " حركة فتح " كفصيل مهم وقائد للسلطة الفلسطينية ضنينة – بخيلة – بالتعاطف مع هذا الإضراب فأعلنت أنها لا تشارك فيه.. وأقول: بالنسبة لحركة فتح وموقفها السلبي من الإضراب.. فمعلوم أنها وبما لها من علاقات دبلوماسية محلية ودولية وما اختطت لنفسها من برنامج سياسي ملتحم مع دورها في إدارة السلطة بحيثياتها الاضطرارية.. معلوم أنها لا تستطيع أن تبني كل مواقفها على أساس مصالح الشعب الفلسطيني والمواجهة مع المحتل.. وفي هذه المرة بالذات تخشى حركة فتح أن تساهم بمشاركتها في إضراب الأسرى عن الطعام في إثارة انتفاضة ثالثة ربما تنقلب عليها بقدر ما تنقلب على العدو.. هذه الانتفاضة بدأت إرهاصاتها تتعزز مع الربيع العربي ومع الانغلاق السياسي.. وهذا يفسر ما تقوم به السلطة من اعتقال بعض النشطاء الذين يحركون الجماهير في هذه القضية – (عاصي.. مثال على ذلك)..  ونتساءل: هل كان الأسرى ليخوضوا هذا الإضراب لو أن أمتهم قامت بما عليها لأجل تحريرهم أو تقليل معاناتهم في أقل حد؟ وأين نظم - عربية – طالما جاملت اليهود ورفرف علمهم على عواصمها.. كانوا يقولون نخبئ ذلك ليوم كريهة وسداد ثغر.. أين هم من قضية الأسرى؟ بل أين هم من كل القضية التي تذبح ذبحا على يد المتطرفين الذين يحكمون كيان العدو هذه الأيام؟ وأين الجفري وعلي جمعة والمطبعون مع الاحتلال الذين انتبهوا فجأة لـ" واجب " زيارة القدس؟ ولماذا لا نحس منهم من أحد ولا نسمع لهم ركزا.. لم نسمع منهم حتى بيانا كلاميا مطلبيا للأسرى.. الذين يجوعون وربما يموتون تحت وقع الإضراب عن الطعام بالآلاف؟  إن مشكلة الذين يستهجنون هذا الإضراب عن الطعام ويرفضون مبرراته.. هي أن معظمهم – إن أحسنا الظن - لا يعرفون أمورا كثيرة من خصائص المشهد الفلسطيني.. فلا يعرفون أن السجن الصهيوني معركة أخرى، ولا يعرفون أن السجان اليهودي ما هو إلا آلة حقد وتعذيب وتشف وانتقام، ولا يعرفون أن للعدو أيديولوجية شاذة أقرب إلى شريعة الغاب ويتنزه عنها الإنسان السوي حتى لو استدعيناه من العصور الحجرية والبيئات الوحشية.. هؤلاء لا يعرفون أن للصهاينة عقلية خاصة متراكبة مع الإرهاب جزءا بجزء، وأنهم لا تحكمهم القوانين ولا الأخلاق حتى مع أصدقائهم ؛ فكيف إذا كنا في نظرهم أعداء دين؟ وكيف إذا كان الأسير منا - في نظرهم - يستحق أن يموت ألف مرة..  الذين يستهجنون إضراب الأسرى لا يعطوننا بديلا.. ولسان حالهم ما قال القائل (ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوّم) وهم لا يعرفون أن أسرانا نوعية مميزة ومختلفة من الناس.. وأنهم الأكثر تمثلا لمسمى الطائفة المنصورة في شعب اختاره الله تعالى ليقيم على أرض هي أرض المحشر والمنشر ومجرد وجود المسلم على ظهرها يجعله مرابطا مجاهدا في سبيل الله.. ولا يعرفون أن هؤلاء الأسرى القديسين وبقدر ما يواجههم العدو بخصوصية عداوته يواجهونه هم أيضا بخصوصية عزمهم وإبداعية صمودهم.. فإن كانوا لا يعرفون عن حال الأسرى إلا النزر اليسير الذي ينفلت من بين ركام التهافت والتتافه الإعلامي.. فهل على أسرانا أن يظلوا في المعاناة إلى ما لا نهاية لأن من لا يعرف لا يريد هو أن يعرف؟  لهؤلاء أنقل مقتطفات من رسالة الأسير " حسن سلامة " المحكوم عليه في سجون العدو بأكثر من أربعة آلاف وسبعمائة عام.. الرسالة نشرها موقع " أحرار ولدنا " الإلكتروني.. ليطلعوا على جانب من الحياة التي يعيشها بل الموت الذي يموته كل يوم وكل ساعة وكل لحظة هذا الأسير في العزل الانفرادي منذ اثنتي عشرة سنة.. وليعرفوا نوعية وماهية هذا العدو الذي يعتقله..  السيد سلامة يتذكر الشمس والقمر والبحر وصلاة الجمعة والجماعة وأيام العيد ويخاطبنا متسائلا.. (.. شمسكم.. هل مازالت تشرق كل صباح ولها غروب!! وهل لا يزال الشفق أحمر وقت الأصيل!! أتذكر أنني كنت أرقبها في الماضي البعيد وقت الغروب، وأقف أمام البحر وهي تختفي.. وكنا نقول ابتلعها البحر.. فهل لا يزال البحر قادرا على ابتلاع الشمس؟ و.. القمر.. هل هو جميل أم أنكم تعيشون مثلنا بلا قمر ولا نجوم وبلا غيوم؟. وصلاة الجمعة هل ما زالت تقام في عالمكم؟ فأنا لم أصلها منذ سنوات.. لكني ما زلت أتذكرها وأتذكر هذا اليوم الجميل، وما زلت أيضا أشتاق لصلاة الجماعة التي أصليها لوحدي، فهل أنال الأجر؟. الأعياد.. هل زاد عددها عندكم!! كنت أتذكر في ذلك الزمان عيد الفطر وعيد الأضحى.. فأنا منذ سنوات رغم وجودي في عالمي الخاص الذي يبعد كثيرا عن عالمكم ويختلف عنه في كل شيء.. احتفل بنفسي في هذه الأعياد، وأستيقظ باكرا بعدما أصلي الفجر، أجلس أمام باب قبري – يقصد الزنزانة - وأبدأ بالتكبير.. فلا أسمع إلا صدى صوتي يؤنس وحدتي.. وبعد الصلاة ينتهي عيدي، وأعود لحياتي، وأتناول حلويات أصنعها من الخبز والسكر!!)  ويصف سجنه فيقول: (هو قبر صغير يعيش كل منا في داخله معزولين.. لهذا القبر باب مغلق تماما.. ولهذا الباب في أعلاه " طاقة " – أي نافذة – صغيرة.. هي مغلقة أيضا تفتح هذه " الطاقة " وتغلق من الخارج.. ومع هذه " الطاقة " تكمن معاناة منعنا من النوم.. فهي تفتح وتغلق طوال الوقت بيد السجان.. نهارا ليلا.. كم مرة لا أدري! لكنها مرات كثيرة في الساعة الواحدة، يراقبوننا من خلالها.. ورغم صغرها ؛ عليها قضبان من الحديد.. هذه " الطاقة " ولأنها من حديد.. مهما حاولت فتحها بهدوء يكون صوتها عاليا جدا، فكيف وهي تفتح وتغلق بكل حقدهم وكرههم وعنصريتهم وساديتهم؟! السجانون.. لا يكتفون بذلك بل يسلطون ضوء بطارياتهم - الكشافات اليدوية - على وجوهنا، حتى يتأكدوا أننا لم نزل في مقابرنا..)  وفي قضية " الطاقة " هذه وفتحها وإغلاقها وما تسببه له من إرهاق وإزعاج.. يقدم لنا السيد سلامة اقتراحا بسيطا يستطيعه كل أحد.. حتى نحس بما يحس ونشعر بما يعاني.. فيطلب أن يؤقت أحدنا المنبه الذي يبث للتنبيه الموسيقى وليس صوت صكيك الحديد الذي يطلقه باب " الطاقة " ويقول (ليسمعكم كل نصف ساعة موسيقى جميلة، وليكن ذلك في اليوم أو أكثر أو أقل وليس لسنوات.. عيشوا معنا قليلا، وتصورا أن هذه حياتنا لسنوات..).  ويصف الأسير سلامة معاناة أخرى.. من نوع آخر.. هي أن في الزنزانة التي بجوار زنزانته سجين فلسطيني بلغت به العذابات حد الجنون فتاه عقله وسقط التكليف الشرعي عنه وصار لا يدري ما يقول ولا ما يقال له.. يقول (.. بجانبي أو بجانب قبري قبر لسجين أمني مثلي.. لكنه مريض نفسي يعرفني جيدا من سنوات العزل، يوم أن كان سليما، ينادي عليّ كثيرا وأنا أعلم أنه لا يعي شيئا، وأعلم أنني إذا أجبته سيكيل لي السباب والشتائم - لأنه مريض - ولكني لا أستطيع إلا أن أجيبه عندما يناديني باسمي حتى يسبني.. فقد يخفف عنه ذلك وحشته، ويخفف عني من ألمي الذي أشعر به، لأنني لا أستطيع مساعدته..)  آخر القول: العدو في هذه المعركة يملك أن يجعل كل لحظة من حياة أسرانا معاناة حقيقية ؛ نومهم ويقظتهم، صحتهم وسقمهم، طعامهم وشرابهم، صباحهم ومسائهم، زيارة أهليهم وممارسة حقوقهم.. وهو يفعل ذلك ويفكر فيه ويخطط له.. وهو يمارسه نوعا من التدين اليهودي على الطريقة الصهيونية ومنهجية للكراهية على طريقة التلمود.. فمعاناة الأسير في الحالة الفلسطينية تبدأ باعتقاله، ولا تنتهي إلا بتحريره.. فهل لا يزال أحد غائبا عن هذه المعركة؟