17 سبتمبر 2025
تسجيلعُرفت تركيا بدورها الحيوي في قضايا المنطقة. وكان ما سمّي بـ"الدور الوسيط" من أهم أدوات حكومة حزب العدالة والتنمية لتعزيز الحضور التركي في المناطق الاقليمية المحيطة. واتسم هذا الدور،وهو ما يتضح من اسمه، بالحيادية والبقاء على مسافة من الأطراف المتنازعة وهو من اهم شروط نجاحه. لا يلغي الدور الوسيط والحيادي أن تكون تركيا منحازة في بعض القضايا إلى ما تراه إنسانيا أو عدالة أو حقا. لكن مواقف الدول لا تتبع مبادىء ثابتة ويمكن أن تكون متغيّرة ومتحركة تبعا لظروف كل حالة وبالتالي لا يمكن التعويل على ثباتها. فما كان مثلا يرفض الأتراك وصفه بـ "الإبادة" لمليون أرمني أو أكثر أو أقل عام 1915 ، كان رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان يناقضه حين لم يجد صعوبة في أن يطلق وصف "الإبادة" على مقتل مئتي شخص أو أكثر فقط من الأقلية الأويغورية المسلمة والتركية في شمال غربي الصين السنة الفائتة. وكان الاستقرار عنوانا للسياسة الخارجية التركية والتي كانت تدفع وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو ليمضي معظم وقته في الطائرة متنقلا من عاصمة إلى أخرى ليمنع نشوب الأزمات ووقوع الانفجارات والحروب. أعطى هذا الدور رصيدا مهما لتركيا لتدخل كل بيت عربي. لكن ما تشهده "الشوارع" العربية منذ منتصف يناير الماضي أدخل الحركة المكوكية التركية المباشرة في غيبوبة غير مفهومة.حتى بدا أن الثورات والاحتجاجات العربية المتنقلة قد أدخلت الديبلوماسية التركية في إرباك .وبدا أن الحسابات العلنية للسياسة التركية قد تكون مختلفة عما يمكن أن يكون فعلا.وهو ما يطلق عليه "الأجندات السرية" للدول. امتلأت الساحات العربية بصور اردوغان وكال الكثير ،ومنهم كاتب هذه السطور، المديح للمواقف والأدوار التركية التي كانت تعطي الأمل بوجود قوة ذات توجه مشرقي يمكن أن تساعد العرب والمسلمين ولو قليلا في إخراجهم من حالة العجز والضعف.ولم يقصّر معظم العرب .وعدا نفر قليل منهم ولاسيما مصر حسني مبارك فقد فتح العرب أبوابهم لتركيا وأدخلوا مسلسلاتها إلى بيوتهم في عملية تحوّل نفسية كبيرة جدا تجاه البلد الذي كان حليفا لإسرائيل على امتداد خمسين عاما والذي لا يزال يقيم أفضل العلاقات مع تل أبيب ولاسيما على الصعيدين العسكري والاقتصادي. ولا يدري المراقب تفسيرا للمواقف التركية المرتبكة تجاه الشارع العربي. العربي لا يريد من تركيا أن تكون مع هذا الطرف أو ذاك في الساحة العربية.لا مع بلد ضد بلد ولا مع طرف ضد آخر داخل كل بلد. في حين أن المواقف التركية لم تكن كذلك.وهو ما أفضى في النهاية إلى حسابات تركية خاطئة جعلت قسما من الشارع العربي يؤيد مواقفها وقسما يرفضها فخسرت حتما فئات بل دولا لم تكن كذلك من قبل وهذا أول خسارة عملية ونفسية للديبلوماسية التركية ولصورة تركيا. دخلت تركيا في مواقفها تجاه العالم العربي إلى حقل معقد وممتلىء بالألغام الاتنية والطبقية والدينية والمذهبية. فاتخذت مواقف متناقضة. طالبت على سبيل المثل بتنحي حسني مبارك منذ اللحظة الأولى ولم تطالب معمر القذافي بذلك منذ اللحظة الأولى ولا فيما بعد. عارضت تركيا في البداية تدخل حلف شمال الأطلسي ثم أيدت تدخله ثم شاركت في سفن وطائرات تفتيش للحصار على ليبيا.ثم قالت إنها ستكون ضمن قوات الدعم لا القصف.رغم أن لا فرق بينها فكل واحدة تكمل مهمة الأخرى. ولم يكن طرد سفينة تركية من ميناء بنغازي سوى تعبير عن الخسارة التركية في واحدة من الساحات العربية. وفي الحالة السورية الجارة القريبة جدا لتركيا كان المسؤولون الأتراك ينفخون في نار الطائفية عندما أشار أردوغان إلى "أهمية" عَلَوية بشار الأسد وسنّية زوجته كـ "ضمانة" للاستقرار في سوريا في استفزاز غير مسبوق واستثارة لقضية حساسة جدا تشكل خطاً أحمر في ذلك البلد. ومع أن "السهم خرج من القوس"،كما يقال، فإننا ندعو تركيا ومن موقع المحب والمقدّر أن تقوم بمراجعة جدية وجذرية في طريقة تعاطيها مع الساحات العربية، وأن تبتعد عن لعبة التناقضات الاتنية والمذهبية والمناطقية والسلطوية، وعدم الرهان على تحوّل هنا أو هناك في ساحة رمال متحركة أهم ما فيها أنها قادرة على أن تكشف المواقف الفعلية لكل الأطراف والقوى من واشنطن وتل أبيب إلى باريس و..أنقرة.