13 سبتمبر 2025
تسجيليقال بأن القط إن حَشَرْته في زاوية، فإنه تلقائياً من باب استشعار الخطر، يبدأ بمهاجمتك وإن كنت في وضع أفضل منه، وتملك أدوات القوة. المسألة في حساباته هو، حياة أو موت. وهذا الأمر له مثيل في عالم البشر الذي لا يختلف عن عالم الحيوان في مسائل الدفاع والخروج من المآزق بأي ثمن. لاحظ مثلاً في عالم السياسة وتحديداً في مسائل التفاوض، أن خصمك حين تحشره في زاوية ضيقة، ثم لا يجد طريقة يخرج منها سوى بمهاجمتك وإلحاق الضرر بك، فإنه لن يتوانى لحظة في تحقيق ذلك، والسبب هو أنت دون أدنى شك. لذا ينصح خبراء السياسة وفن التفاوض، ألا يدفع المرء خصمه إلى أصعب الخيارات، لأنه في سبيل تحرير نفسه من الورطة، سيلجأ إلى كل ما يحقق له ذلك من وسائل وحيل، ولو كانت نسبة المخاطرة كبيرة. الخاسر في الموقف السابق ليس خصمك الذي دفعته إلى تلك الزاوية فحسب، بل أنت كذلك ستخسر بدرجة وأخرى، والحكمة بالتالي تقتضي عند التفاوض، أن تقلل نسبة الخسائر قدر المستطاع، وإحدى وسائل تقليل الخسائر هي ألا تحشر الخصم في موضع، لا يجد مهرباً أو مفراً أو طريقة إلا بفك نفسه من الورطة التي دفعته أنت إليها، حتى لو كانت نسبة نجاحه ضئيلة، لكنها في حساباته أفضل من خسارة الموقف تماماً. هذه المقدمة شبه الطويلة، أحببت البدء بها بعد أن أثار الدكتور محمد المسفر، أحد أعضاء هيئة التدريس في جامعة قطر، مشكلة شراء الأبحاث والواجبات الأكاديمية المنتشرة بين كثيرين من طلاب وطالبات الجامعة، وعرج إلى أساس المشكلة وطالب بمناقشتها ووضع الحلول الناجعة. الأبحاث المعلبة حين يطلب أستاذ من طلابه في مادة ما، تقديم بحث أو أكثر خلال الفصل كجزء من عملية التقييم، التي هو نفسه ربما يكون غير مقتنع بها لكنه ينفذ تعليمات وتوجيهات أعلى، فإنما هو وبقية زملائه من طاقم الهيئة التعليمية بالجامعة، يدفعون الطلاب دفعاً إلى زاوية ضيقة، كما المثال الذي بدأنا به المقال. أي طالب في الجامعة لا تقل المواد التي يسجلها بالفصل الواحد عن أربعة أو أكثر. فإن كان مطالباً بإعداد أبحاث لكل مادة، مع التزاماته الأخرى كالواجبات والمشاريع المطلوبة في غالبية المواد، فضلاً عن الاختبارات، فتأكد أنك كأستاذ مادة مع بقية زملائك، حشرتم هذا الطالب في زاوية لا يجد مهرباً للخلاص سوى الاستعانة بالغير، كوسيلة من وسائل الخلاص. والغير ها هنا متمثل في مكاتب أو أفراد يقومون بإعداد المطلوب من الأبحاث والواجبات، ولكل عمل ثمنه. وهكذا القصة تبدأ والتي لا تزال مستمرة. المحصلة النهائية هي أن الطالب لم يستفد من الأبحاث كما يأمل الأستاذ، والذي هو نفسه لا يملك رفاهية الوقت للاطلاع على أبحاث طلابه، الذين ربما يفوق عددهم المائة طالب في الفصل الواحد. فأي قدرة عند هذا الأستاذ أو غيره لمطالعة مائة بحث، بالإضافة إلى واجبات أخرى طلبها من تلاميذه، وواجبات أخرى عليه تجاه التحضير والإلقاء والنقاش وإعداد الاختبارات وغيرها من مهام، وبالتالي أمام هذا الضغط الكمي لا النوعي على الأستاذ وطلابه، لن يكون مستغرباً أبداً ألا يجيد الطالب الجامعي بعد التخرج، أساسيات الكتابة أو إعداد البحوث والدراسات. فمن الخاسر ها هنا؟ إنه ليس الطالب فحسب، بل الجامعة كذلك أو سمعتها الأكاديمية، ويدخل ضمن نطاق الخسارة أيضاً الأستاذ، لأنه لم يجد الوقت الكافي لأن يبدع في تقديم مادته كما يجب، وبمعنى آخر، الجميع خاسر. من هنا نجد أن عملية التقييم في الجامعة لابد من أن يُعاد النظر فيها. والأفضل في رأيي أن يُترك التقييم لأستاذ المادة. يوزع الدرجات كما يشاء، فإن لكل أستاذ فلسفته وأسلوبه في تقييم طلابه، وكل مادة تختلف عن الأخرى، وبالتالي التقييم الذي يصلح لمادة ما، ليس شرطاً أن يكون كذلك لمادة أخرى، بل ليس شرطاً كذلك أن تكون الاختبارات التقليدية من شروط التقييم. لابد من تحديث وتطوير أساليب وطرائق التقييم. الحاصل الآن، أن كثيرين من طلاب الجامعة هدفهم الأول والرئيسي، معرفة نسب الاختبارات ضمن عملية التقييم، بل إن أول ما يسأل الطلاب عنها منذ اليوم الأول هي الاختبارات ودرجاتها، وأي جزئية ملغية أو لا تشملها الاختبارات، وغيرها من أسئلة تدل غالبيتها على أن هم الطالب الرئيسي في الجامعة صار هو الدرجة، وليس أن يتعلم! اختبارات المدارس ضمن سياق الحديث عن عملية التقييم بالجامعة، ربما أجد الوقت مناسباً أن يشمل حديثنا اليوم عملية التقييم بالمدارس أيضاً، وخاصة أننا في نهاية أسبوع اختبارات منتصف الفصل الدراسي الثاني، حيث أجد أن عملية التقييم بالمدارس تحتاج إعادة نظر، وتعديل فلسفتها. وقد سبق أن كتبت حول الأمر مراراً وتكراراً كما كتب غيري، لكن لا أثر واضحاً على ما يبدو من كل ما سبق! الحاصل الآن ومنذ عقود عدة، على رغم تطور التعليم وتقنياته ووسائله، وتطور العالم من حولنا بثورة الاتصالات والمعلومات، نجد أن التقييم لا زال كما هو لم يتغير إلا قليلا، دون استثمار فعلي في مسألة التقييم لمسألتي التقنية ووفرة المعلومات، التي تجتاح العالم منذ أكثر من عقد من الزمان. حتى تكون الصورة واضحة لما أروم إليه، خذ مثالاً مادة الاجتماعيات للمرحلة الإعدادية على سبيل المثال، لا الحصر. تجد أن كمية المعلومات في تلك المادة كبيرة، وبالتالي صار من يحفظ أكثر، يحصد درجات أكبر، بغض النظر إن كان الحفظ عن فهم ودراية أم لا. الاختبارات ها هنا تقيّم قوة ذاكرة الطالب، وقدرته في حفظ أزمنة الأحداث، وحفظ أسماء الشخصيات والمدن والمواقع، وغيرها من معلومات، لا تستدعي الحفظ واستحضارها وقت الامتحان، وتعبئة الذاكرة البشرية بها، وهي متوفرة الآن في أي زمان وأي مكان؛ بمعنى أن الحصول عليها لا تستغرق ثوانيَ معدودة. لماذا يحفظ الطالب مثلاً نتائج الثورة الفرنسية ومتى كانت معركة العلمين أو وقت إنزال النورماندي أو معركة أوكيناوا وغيرها من أحداث تاريخية، ومعلومات أخرى دسمة في الجغرافيا ستكون جميعها حاضرة بكبسة زر في ثوانٍ قليلة. لماذا لا يكون التقييم على قدرة ومهارة الطالب في الوصول إلى المعلومة، والاستفادة منها في الإجابة على الأسئلة، عبر اختبارات ما يسمى بالكتاب المفتوح، أو الاستعانة بالإنترنت، وأن تكون نسبة أخرى من الدرجة لتقييمه -من بعد تدريبه- على مهارة تحليل الأحداث التاريخية بحسب مستواه التعليمي، وكتابة رأيه فيها، وغير ذلك من طرق وأساليب التقييم المختلفة التي تناسب هذا الجيل، أو الجيل الرقمي؟ الأمر ليس مقتصراً على مواد الاجتماعيات، بل يشمل كذلك اللغة العربية بتفصيلاتها في قواعد اللغة والبلاغة، التي -في رأيي- ما تزيد الطلاب غير مزيد ابتعاد عن لغتهم الأم ومزيد نفور، وتكون المحصلة بعد الثانوية: لا مهارة قراءة ولا كتابة ولا فهم أحياناً كثيرة! وقس على ذلك تقييمات العلوم الشرعية والعلوم العامة وغيرهما من مواد. لا أقصد إلغاء التقييمات أو الاختبارات، لكن تعديل الطرائق والأساليب، فما كان معمولاً به زمن ندرة الكتاب وندرة مصادر المعرفة، التي جعلت حفظ ما بين غلافي كتاب كل مادة من اللوازم الأساسية لاكتساب المعرفة. هذا الأمر لم يعد كذلك الآن في هذا القرن، أو مع هذا الجيل. لابد من مراعاة هذا التغيير الحاصل من حولنا مع أبنائنا. زمننا هذا لم يعد زمن حفظ معلومات واستحضارها وقت الاختبار. نعم لحفظ ما لابد منه كالقرآن والأحاديث وما يلزم الإنسان في عبادته. أما غير ذلك، فنحن نعيش زمن وفرة المعلومات، التي يمكن الوصول إليها بأقل جهد ممكن، وبالتالي نحتاج إلى تعليم وتوفير أداوت البحث لطلابنا، وكيفية الوصول للمعلومة وكيفية توظيفها، ومن ثم تقييمهم على تلك المهارات وما ينتج عنها، والموضوع في هذا يطول ويتشعب.. لتكن التقييمات إذن على المهارات المطلوبة لهذا العصر، مثل سرعة الوصول للمعلومة ودقتها وكيفية الاستفادة منها، بالإضافة إلى تعزيز ودعم وتطوير مهارات الكتابة والقراءة والتفكير والتحليل، ليس بعد دخول الطلاب إلى الجامعات فحسب، بل منذ نعومة أظفارهم في الابتدائية وما بعدها. ولعل كثير منكم عنده من الإضافات والأفكار والأطروحات في هذا الشأن، والتي أرجو العمل على نشرها وعرضها على المهتمين وأصحاب الشأن والقرار، لمناقشتها وتطويرها، كي تواكب وتوائم ما يجري حولنا في هذا العالم من تطور طال معظم مجالات الحياة. فلماذا لا يصل هذا التطوير إلى التعليم وطرائق التقييم بالمثل؟ سؤال يحتاج إلى إجابة شافية كافية.