18 سبتمبر 2025
تسجيللعل أبرز ما في تعديلات دستور السودان الأسبوع الماضي وما أكثر التعديلات، تعزيز صلاحيات جهاز الأمن بل جعلها صلاحيات مطلقة، ورأى بعض الخبراء أن التعديلات أعطت الأمن كافة الصلاحيات الممكنة وغير الممكنة، كذلك أتاحت تلك التعديلات للرئيس عمر البشير تعيين الولاة بدلا من انتخابهم.. بموجب هذه التعديلات الكارثية أصبحت الفقرة المتعلقة بصلاحيات جهاز الأمن تنص على: "يكون جهاز الأمن الوطني قوة نظامية مهمتها رعاية الأمن الوطني الداخلي والخارجي ويعمل هذا الجهاز على مكافحة المهددات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية كافة والإرهاب والجرائم العابرة للوطنية" وأضيف بند جديد ينص على: "ينظم القانون إنشاء محاكم جهاز الأمن والمخابرات الوطني وتشكيلاتها واختصاصاتها وسلطتها وإجراءاتها وخدمتها القانونية".. وكانت المادة السابقة كانت تحصر صلاحيات هذا الجهاز فقط "جمع المعلومات والتحليل".. صحيح أن الدستور المعدل جاء إثر توقيع اتفاق السلام بمشاركة الحركة الشعبية بمعنى أن يد الحزب الحاكم برئاسة البشير لم تكن مطلقة إلا أن هذه المادة كانت في دستور ما قبل مشاركة الحركة الشعبية تنص على: "تكون خدمة الأمن الوطني خدمةً مهنيةً وتركز في مهامها على جمع المعلومـات وتحليلها وتقديم المشورة للسلطات".. أي أن تحول الجهاز لقوة قمعية أمر مستجد يصب في ترسيخ الدولة الأمنية لا بناء الدولة المدنية، وقد تم التمهيد لهذه الخطوة بضم قوات غير نظامية ذات سمعة سيئة تطاردها اتهامات دولية بارتكاب جرائم حرب في دارفور، وسمتها الحكومة بـ"قوات الدعم السريع"، وسبق أن اتهم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون هذه القوات في تقرير قدمه إلى مجلس الأمن الدولي في أبريل الماضي بالقيام بهجمات ضد المدنيين.ويأتي تعديل المادة التي قضت بتعيين الولاة من قبل الرئيس بدلا من انتخابهم في سياق ترسيخ الدولة الأمنية أيضا، ونصت على "يعيين الرئيس ولاة الولايات وشاغلو المناصب الدستورية والقضائية والقانونية الأخرى وقيادات القوات المسلحة والشرطة والأمن، ويعفيهم وفق أحكام القانون"، وكان من المفترض أن تجري انتخابات الولاة في أبريل القادم قبل يستبق البشير ويطلب تعديل الدستور ويحذر نواب حزبه الذين يشكلون أكثر من ٩٥٪ من مجمل النواب ويقول لهم بنبرة تحذيرية طالبا إجازة التعديلات "بدون شوشرة".لم يكن الاتجاه نحو تشديد القبضة الأمنية أمرا غريبا على العقلية الحاكمة؛ فقد ألقت الإجراءات القاسية التي اتخذها حزب المؤتمر الوطني الحاكم قبل عامين تجاه أحد قيادييه البارزين، أضواءً كاشفةً على الطريقة الفظة التي يدار بها الحزب.. تلك الفظاظة لم تكن بسبب صرامة تطبيق اللوائح كما حاول حينها البعض السباحة في بحر التبريرات، بل كانت نوعاً من هيمنة العقلية الأمنية وشرعنة الحرب على الرأي الآخر.. كان الدكتور غازي صلاح الدين رئيس كتلة نواب المؤتمر الوطني في البرلمان (قبيل إقالة حزبه له) ورئيس حركة الإصلاح الآن، يجادل قادة الحزب بالتي هي أحسن ويطرح أفكاره مستخدماً نهجاً ناعماً وحواراً متزناً.. كان الرجل يحاول كشف المزيد من المثالب لأغراض الإصلاح الحزبي، وقد عبّر في دراسة له عن عدم رضاه عن مآلات نظام الإنقاذ بقيادة الرئيس البشير بعد (٢٥) عاماً، وهو يعقد مقارنة لصالح التجربة التركية التي تصغر التجربة السودانية بعدد وافر من السنوات.فإن كانت العقلية الأمنية والإجراءات التعسفية ديدن التعامل مع عضويته، بل مع قياداته التاريخية؛ فإن تعامله مع مكونات المجتمع والقوى السياسية الأخرى، سيكون بالضرورة أكثر فظاظة وأوجع من وقع الحُسام المـهنّد.. هذه النهج نتج عنه تنامي الضيق والتبرم من النهج الإقصائي من لدن عقلية أمنية مسيطرة على تفكير قيادته، وأفرز تحركات مضادة بدأت كممارسات سياسية مشروعة وانتهت بمحاولة انقلابية عسكرية، وكان ذلك دلالة على ذروة الاستياء والاحتقان.لا يعلم الحزب الحاكم أن المعالجات الأمنية لا تزيد الأوضاع إلا تعقيدا؛ لقد أظهرت أحداث سبتمبر من العام قبل الماضي شرخا خطيرا في الأمن الاجتماعي وأن مصيبة الحكومة أكبر من مجرد وضع اقتصادي متردٍ واحتجاجات شعبية على إجراءات رفع الدعم عن أهم سلعة إستراتيجية وهي الوقود ليرتفع بنسبة (55%). فلم تشهد الخرطوم حينئذ مظاهرات نمطية، مطلبية أو سياسية بالمعنى المعروف؛ حيث أفرزت المعالجات الأمنية للمظاهرات الواسعة، توترات اجتماعية وطبقية خطيرة. المدهش أنه كلما تعقّدت الأزمة السياسية في السودان أمعن الممسكون بمقاليد الأمور في الخرطوم في اجتراح الحلول الترقيعية والجزئية التي لا تقود إلا إلى مزيد من التأزيم.. في يناير من العام الماضي طرح البشير مبادرة سياسية بدت لأول وهلة كوصفة سحرية لأزمة شاملة ومتطاولة، تتخطى لأول مرة دوامة الاضطراب السياسي وحالة (اللا) استقرار منذ أن اعتلى الرجل سدة الحكم عبر انقلاب عسكري في يونيو من العام 1989. تلك (الوثبة) وهو الاصطلاح الذي أطلقه البشير على مبادرته؛ اعترفت صراحة بعدم توفر الحريات السياسية والصحفية ولذا تضمنت قراراّ جمهورياّ بإطلاق الحريات السياسية والصحفية. بيد أن الحزب الحاكم يمثل الضلع الأبرز في الأزمة السياسة التي تضرب بخناق البلاد. يبدو أنه من الصعب أن يعترف حزب البشير بأن الحل الشامل لأزمة البلاد يتمثل في ضرورة وجود حكم قومي ومعالجة قضية الدين والدولة وبسط الحريات الأمر الذي سيفضي بالضرورة إلى تحقيق سلام شامل وإنعاش الاقتصاد وإعادة بناء علاقة السودان بالمجتمع الدولي. فالبلاد تعاني اليوم من وضع اقتصادي مأزوم ونقص مريع في العملة الصعبة وديون بمليارات الدولارات، ليصنف السودان في أدنى سلم التنمية الإنسانية والفساد وحرية الصحافة، فضلا عن عزلة دولية ضاربة بجذورها، والأسوأ من ذلك كله على الإطلاق تهديد الكيان السوداني كله.