19 سبتمبر 2025

تسجيل

جيش العراق في ظل "الفدرلة"

10 يناير 2011

من المؤكد أن "عيد تأسيس الجيش العراقي" يتمتع باحترام خاص لدى العراقيين، ورغم أنهم كانوا يحققون طريقة النظام السابق في الاحتفال به، وكيف أن الرئيس السابق كان يتصرف بالجيش ويوظفه في مغامراته، إلا أن العراقيين بمن فيهم المعارضون السابقون كانوا يبدون دائماً اعتبارات تميز هذا الجيش عن النظام نفسه. منطقياً، كانت الشفافية السياسية تفترض، لو توافرت، ألا تعلن الحكومة العراقية أن العرض العسكري الذي أقيم يوم الخميس الماضي كان احتفالاً بالذكرى التاسعة والثمانين لتأسيس الجيش العراقي، وذلك لسبب بالغ الوضوح، ففي عرف الحكام الحاليين لا ينتمي الجيش الحالي إلى الجيش السابق، ولأنهم هم الذين طلبوا من واشنطن قبل الغزو، ثم من سلطة الاحتلال، أن تحل ذلك الجيش، بل ألحوا على حل الدولة بمؤسساتها كافة، وهكذا فإن مخططي تغيير النظام، من الجانبين، قرروا مسبقاً إعادة تأسيس الدولة وأمنها انطلاقاً من الصفر. حسن، وبغض النظر عن خطأ هذا القرار أو صوابه، فإن واقع العراق بعد سبعة أعوام على الاحتلال كافٍ للحكم عليه، لكن الأكيد أنه لم تكن هناك خطط جاهزة لتنفيذه، رغم هوله وخطورته، ومع افتراض أنه القرار الصحيح، فكيف يستقيم لدى الحكام الجدد أن يلحقوا الجيش الجديد بذاك القديم الذي عاملوه بمهانة أشد من الذل الذي أنزله به النظام السابق، كانت الحجة الأقوى للتخلص من الجيش أنه بعثي، ومن الدولة أنها مبنية على ثقافة البعث، لكن حتى صدام حسين كان يعرف أن جيشه ليس بعثياً ولا مؤسسات الدولة بعثية، وإنما كان البعث يحكم الجميع مختزلاً بقرار رجل واحد، كان عشرات من الضباط هربوا إلى الخارج وتوزعوا على فصائل المعارضة ثم دخلوا معها من الكويت والأردن، وقد استخدموا للاتصال بمئات آخرين بقوا في الداخل، ثم جرى الاستغناء عنهم، إلا قلة استعان بها الحكام الجدد. في المرحلة الأولى، بعد الاحتلال، لم يكن الأمر يتعلق ببناء جيش جديد، وإنما بإنشاء ميليشيات تمهيداً لتقاسم النفوذ في مختلف أنحاء البلد، أما نهاية الجيش السابق فلم تكتبها "بعثيته"، ولا إرادة الحكام الجدد، بل إرادة الجهات التي ارتبطوا بها ونزواتها، بل على الأخص الرؤية الاستراتيجية للعراق ودوره ومكانته وفقاً لتصورات متصادمة ومتناقضة لكن متقاطعة ومتلاقية في نهاية المطاف بين ما يريده الأمريكيون و(الإسرائيليون) وما يطمح إليه الإيرانيون، بدا كأن بقاء الجيش السابق يعني استمرار العراق عربياً، بالمفهوم الذي يرفضه كل هؤلاء، بالإضافة إلى الأكراد الذين اعتبروا دائماً أن الفكر القومي العربي كان عنواناً لاضطهادهم، وبالتالي فلا عودة إليه بعد نهاية النظام السابق، لكن لا عودة أيضا لعراق موحد أرضاً وشعباً ودولة وجيشاً.. ومن أجل هذا الهدف، هذه اللاعودة، كان مرحباً بالميليشيات لأنها ذريعة التفتيت وأداته. أما مرحلة إعادة التأسيس فتأثرت ولاتزال، بالمفاهيم الملتوية التي قادت إعادة تأسيس الدولة، والنظام، وهي بدورها تأثرت بمفاعيل "الثقافة" الهجينة التي انبثقت عن ممارسات اللحظة التالية لسقوط النظام السابق، ومرة أخرى، مع افتراض أن قرار إلغاء الدولة والجيش والأمن كان صائباً، ومع اعتبار أن النهب الذي تعرضت له المنشآت الحكومية كافة وصولاً إلى المتحف والمواقع الأثرية عبر عن روح انتقامية لدى الشعب الناقم على النظام السابق، لم يكن مفهوماً لماذا شاركت القوى الوافدة مع قوات الاحتلال في عمليات النهب بعدما أصبح البلد – ولو نظرياً – تحت سيطرتها وباتت مؤتمنة على ممتلكات دولة بائدة لكن يتوجب إعادة بنائها، ومنذ باشر الحكم الجديد عهوده، لم يكن مفهوماً ايضا لماذا استشرت ظواهر الفساد على هذا النحو الفاحش والمستفحل، سواء تعلق الأمر بتسليح الجيش وقوى الأمن أو بأي أمر آخر، وقياساً على ما كان المعارضون السابقون يقولونه عن فساد رجالات النظام السابق، فإن فساد هؤلاء يبدو هزيلاً ومضحكاً إزاء فساد الجدد، ثم أن بلدان اللجوء أو المنفى الاختياري لم يسبق أن شهدت هذا العدد من حديثي الثراء بعد المرور في أروقة الحكم، فيما لايزال العراقيون يشكون من غياب الخدمات أو تدهورها. ثمة مفارقات شكلية واكبت العرض العسكري، من إقامته في المنطقة المغلقة، إلى غياب وزراء الأمن الأربعة الذين لم يعثر عليهم بعد، إلى مشاركة خليط من قطع عسكرية أمريكية إلى جانب "سوفييتية" إلى استهزاء قائد سلاح الطيران من تقارير تتكهن بـ"انقلاب" من داخل المؤسسة العسكرية التي قال إنها لن تحظى بالسلاح الأهم الذي سيؤول إلى الوحدات الخاصة لمكافحة الإرهاب، لكن الأهم كان تأكيد نوري المالكي للانطباعات العامة السائدة بشأن الجيش الجديد، الذي يفترض ألا يستكمل جهوزيته بنهاية هذه السنة مع الانسحاب الأمريكي. يراد لهذا الجيش أن يكون – حسب الطلب – محدود القوة "مهنياً"، "غير مضخم"، و"غير مسيّس"، لا يشكل خطراً على محيطه ولا يشكل محيطه خطراً عليه، لا يتوقع أن يُحارِب ولا يتوقع أن يُحَارَب، لا يعادي أحداً في الخارج بل يكفيه أعداء الداخل، لكن هؤلاء ستتكفل بالتصدي لهم قوات الأمن التي ستحصل على التسليح المناسب، وسيكون الاعتماد الأساسي عليها (وكأنها وريثة الحرس الجمهوري). هذه هي الوصفة التي تفترضها "فدرلة" العراق، ومع بلورة معالمها لابد أن أهمية الجيش ستتضاءل لأن مكانة الحكومة المركزية نفسها لن تكون واضحة الفاعلية، وكان بعض التطورات في ما يسمى "المناطق المتنازع عليها، في الشمال رسم حدوداً ولو قسرية لقدرة الحكومة المركزية، وكذلك لقدرة الجيش، ما شكل عينة لما سيكون عليه الوضع تحت "الفدرلة".