13 سبتمبر 2025

تسجيل

الجامعات العربية وأزمة صناعة المعرفة

09 نوفمبر 2014

السؤال الجوهري عند الكلام عن التعليم العالي في الوطن العربي هو ماذا تريد الدول العربية من التعليم العالي والبحث العلمي؟ هل الهدف هو تلقين المعلومات وتخريج عشرات الآلاف من الطلاب بغض النظر عن نوعية تكوينهم وعن احتياجات السوق، أم أن الغرض هو أكثر من ذلك، حيث يشمل كذلك صناعة المعرفة والمساهمة في حل المشاكل المختلفة للمجتمع. الفرق بين الجامعة البحثية والجامعة التدريسية هو أن الجامعة البحثية تتوفر على برامج الماجستير والدكتوراه والدراسات العليا وعلى مراكز البحوث والدراسات وعلى ميزانيات بحث تقدر بمئات الملايين من الدولارات، بل المليارات في بعض الجامعات العريقة والمتميزة في العالم. هذه الجامعات هي التي تفرز عادة كبار السياسيين والرؤساء ورجال الأعمال والفائزين بجوائز نوبل وغيرها من الجوائز العالمية. هذه الجامعات تتفاعل كذلك مع شركات عملاقة لتقوم بإنجاز مشاريع بحثية لحسابها في تطوير منتجاتها ومشاريعها المختلفة. ومن هنا نستنتج أن الكلام عن صناعة المعرفة في الجامعات العربية هو في غير محله وغير منطقي. فميزانية البحث العلمي في أعرق وأكبر جامعة عربية لا تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات وإذا غابت الوسائل والإمكانات ومستلزمات صناعة المعرفة فالكلام عن البحث العلمي وإنتاج المعرفة يبقى دون معنى. الكلام عن التعليم العالي والبحث العلمي يقودنا لفتح ملف التعليم الأساسي النظامي، حيث إن هذا الأخير يعاني من مشاكل لا تحصى ولا تعد، كالحشو والكم على حساب النوع، إضافة إلى التقليد والتلقين والتركيز على الحفظ بدلا من تنمية الفهم والتطبيق في الواقع وتنمية ذكاء الطفل ومهاراته. فالتلميذ بعد إنهائه الثانوية العامة يصل إلى الجامعة وهو لا يتحكم في لغته الأم بطريقة جيدة ولا باللغة الأجنبية. كما أنه يفتقر إلى أدنى مقومات التفكير التحليلي والتفكير النقدي. وفي هذه الحالة تواجه الجامعة مشكلات عويصة في التعامل مع هذه النوعية من الطلاب خاصة أولئك الذين يتابعون دراستهم باللغة الأجنبية. والحصيلة تكون في غالب الأحيان أن يفشل الطالب في الحصول على المعدل المطلوب في اللغة الأجنبية، فيضطر إلى تغيير التخصص وبذلك يضيّع سنة أو سنتين وفي الأخير لا يدرس التخصص الذي أراده في المقام الأول. والمشكلة التي يواجهها التعليم العالي في الوطن العربي هي ضعف التنسيق بين مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي والتعليم العام وهذا ما يؤدي إلى مشكلات عويصة تتعلق بتأقلم طالب الثانوية العامة مع البيئة الجديدة في الجامعة التي تختلف تماما عن الحياة المدرسة. ومن التحديات الكبيرة التي يواجهها التعليم العالي في الوطن العربي عملية التمويل، فالقطاع الخاص ينظر إلى الاستثمار في التعليم العالي من زاوية تجارية محضة، أي منطق الربح بغض النظر عن متغيرات هامة، كالجودة وتمويل البحث العلمي ورعاية المتميزين والمتفوقين، أما الدولة ومع تزايد الأعداد الهائلة من الطلاب المقبلين على الجامعة فإنها إما أنها تتنصل من دورها وتترك المجال للقطاع الخاص وإما أنها تتكفل بالموضوع دون احترام معايير الجودة الشاملة والنوعية، فالتعليم العالي أصبح يكلف الكثير، خاصة إذا تمت مراعاة الجودة والنوعية. فما تخصصه الدول العربية للإنفاق على التسلح يفوق بكثير ما يُخصص للتربية والتعليم والبحث العلمي، وما تخصصه الدول العربية قاطبة للبحث العلمي لا يتعدى الملياري دولار، وهو في حدود ما تخصصه جامعة هارفارد ومشيجان الأمريكيتان للبحث العلمي. وهذا دليل آخر على أن الكلام على صناعة المعرفة يتطلب الكلام على شروط ومستلزمات هذه الصناعة، فالبحث العلمي يتطلب إمكانات مادية معتبرة، وباحثين وعلماء في مستوى عال وإدارة رشيدة وفعالة وإستراتيجية واضحة المعالم وصناعات ومشاريع تنموية تتفاعل مع المشاريع البحثية وتمولها وتستخدمها في تطوير الأداء والنتائج وأهم من كل ما تقدم بيئة بحثية ومجتمع يقّدر العلم والمعرفة والبحث العلمي. في الوطن العربي نلاحظ أن بعض هذه المعطيات غير متوفرة وإذا توفرت فالمشكل يكمن في التخطيط والإدارة والتنسيق. وتجدر الإشارة هنا إلى أن البحث العلمي هو ثقافة وسلوك وحضارة يجب أن يؤمن به المجتمع بمختلف شرائحه، خاصة صانع القرار. وهنا نلاحظ تناقضا آخر، وهو الفجوة التي توجد بين صناعة القرار والبحث العلمي في الوطن العربي. من المشاكل التي تعاني منها الجامعات العربية كذلك هجرة العقول، حيث إن المتفوقين والمتميزين من الخريجين من الجامعات العربية يحصلون عادة على منح لمتابعة دراساتهم في الجامعات الغربية، فيلتحقون بها وفي غالب الأحيان يتفوقون ويحصلون على منح أخرى وامتيازات، وفي آخر المطاف يستقرون في تلك الدول، نظرا لتوفر شروط البحث العلمي والمنافسة والجودة والتميز والتفوق، الأمر الذي لا يتوفر في البلد الأم. الأمر الذي يجعلهم يقررون البقاء في الغرب وهكذا تخسر الدول العربية مئات، بل الآلاف من أحسن باحثيها وعلمائها ومفكريها في كل سنة، فالدول العربية تزرع ونظيراتها في الغرب تحصد. وهذا النزيف يعتبر خسارة كبيرة جدا، لأن الدول العربية تخسر النخبة المتخرجة من جامعاتها وهذه النخبة هي التي من المفترض أن تقود الإبداع والابتكار والاختراع وصناعة المعرفة. التحدي الآخر الذي تواجهه مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي هو الفجوة بين مخرجات الجامعات وسوق العمل، ونلاحظ هنا أن نسبة البطالة في العالم العربي تقدر بـ15% وهذا يعني أن هناك آلاف الخريجين ينهون دراستهم الجامعية ويجدون أنفسهم دون عمل وأن البعض يعمل في وظائف بعيدة كل البعد عما درس في الجامعة وعن مستوى تأهيله. وهذا يعطي انطباعا عاما بأن التعليم الجامعي لا جدوى من ورائه ويفضل الشباب التوجه نحو التعليم المهني أو العمل في سن مبكرة أو الهجرة...إلخ. ومن المشكلات التي يواجهها التعليم العالي في الوطن العربي التبعية والتقليد ومشكلة الازدواجية اللغوية والهوية، حيث إنه في غياب إنتاج المعرفة والإنتاج العلمي تعتمد الجامعات العربية على ما ينتجه الآخر وفق معاييره وقيمه ومبادئه وأهدافه. فالاعتماد على الآخر وثقافة الاستهلاك والتقليد عوامل تؤدي إلى التبعية وذوبان الهوية الوطنية والثقافة الوطنية في طوفان العولمة التي لا ترحم. إصلاح واقع التعليم العالي والبحث العلمي وصناعة المعرفة في الوطن العربي يحتاج إلى إجراءات تنظيمية وهيكلية ومعرفية جذرية، تتمثل في تغيير الذهنية وتطوير الإدارة وزيادة الميزانية بنسب عالية وإشراك القطاع الخاص في التمويل. يجب كذلك التنسيق المنهجي والمنظم بين وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم وكذلك التنسيق مع سوق العمل والقيام بدراسات وبحوث واستطلاعات دورية لتحديد الاحتياجات ووضع الإستراتيجيات للاستجابة لها.