12 سبتمبر 2025
تسجيللا تزال العروبة تشكل موضوع نقاش محتدم ومتجدد داخل المدارس الفكرية والسياسية العربية، بسبب القراءات المتناقضة حول مضمونها، بين دعاة التجديد والتجاوز للمفاهيم والأطر الأيديولوجية التي سجنت العروبة في قوالب جامدة، وبين دعاة التشكيك في معناها ووجودها. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تبنت العروبة أفكار عصر النهضة الأوروبية. فأوروبا كانت ماثلة في ذهن المثقفين والسياسيين المتحمسين لإحياء العروبة من سباتها العميق فعلى الصعيد الفكري والثقافي كان هناك تياران: تيار الإصلاح الديني، وتيار ليبرالي. أما على الصعيد الاجتماعي السياسي، كانت ثمة حركتان متعاكستان حركة مجتمع متأخر بدأ يتلمس تأخره نتاج الصدمة مع الغرب، ويريد إعادة بناء ذاته وصياغة هويته، وتحديث بنيته بأدوات بعضها محلي ذو أبعاد تاريخية، وبعضها مضادة، مصدرها الضغط الخارجي، الذي كان يدفع إلى إعادة إنتاج المجتمع المدني وفق معطيات العصر الحديث وشروطه، ولاسيَّما تحكم المراكز الاستعمارية، وإلى إعادة تشكيل بنى المجتمع وفق المصالح الرأسمالية الغربية، ومنطق التطور الرأسمالي اللامتكافئ لمصلحة ظهور رأسمالية تبعية و«هامشية » في العالم العربي، حيث أصبح هذا الأخير منطقة هامشية وآمنة للسوق الرأسمالية العالمية وفي ظل سيطرة الحركة القومية العربية الناصرية والبعثية ذات المضمون الأيديولوجي المناهض للاستعمار الغربي والإمبريالية، والكيان الصهيوني، في الخارج، وللطبقات الإقطاعية والرأسمالية في الداخل.وكان المحتوى السياسي والاجتماعي للعروبة يتمثل في تحقيق استقلال البلدان العربية عن الاستعمار البريطاني والفرنسي وعن الهيمنة الغربية، وتحقيق التقدم في الميدان الاقتصادي والاجتماعي من خلال اضطلاع الدولة بالقيادة الاقتصادية إلى جانب القيادة السياسية (بمعنى التحديث والعصرنة) والقضاء على سيطرة رأس المال الكبير على الحكم وهيكل إنتاجه بأجنحته المحلية (البرجوازية الكبيرة وكبار الملاكين العقاريين) وأجنحته الأجنبية (الاحتكارات الرأسمالية الغربية). ولقد فهمت الحركات القومية العربية الأيديولوجية التي رفعت راية العروبة أن فك علاقة التبعية البنيوية بين العالم العربي والامبريالية الغربية وكسرها وقطعها وبالتالي تحقيق التحرر الوطني والاستقلال السياسي الحقيقي يتطلب بناء الدولة القومية باعتبارها "المبدأ الأوحد للتنظيم" من أجل قيادة القوى القومية إلى الصراع مع المصالح الغربية في العالم العربي، وإلى تحقيق فكرة الوحدة العربية على أرض الواقع من خلال تجربة (وفشل) الوحدة المصرية -السورية (1958-1961). وكانت فكرة العروبة، التي اعتنقها عبد الناصر والبعث تعني تحرير العالم العربي من السيطرة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، وإحداث التغيرات الواسعة في الأوضاع السياسية العربية تعبر عن آفاق تجاوزية لواقع التجزئة القطرية والانقسامات القبلية والعشائرية، وعن الدعوة إلى بناء إستراتيجية تنموية قومية راديكالية تفتح أمام العرب الطريق إلى التحرر بواسطة الوحدة العربية، وإلى بناء اقتصاد وطني متحرر خارج إطار الاقتصاد العالمي الرأسمالي في آن معاً. ركز العسكر الذي شكل العمود الفقري للحركات القومية الأيديولوجية على مقولة "التنمية الاجتماعية"، باعتبارها هاجساً مركزياً في فلسفته السياسية، حيث كان هذا الهاجس أحد العوامل الذي جعله يصطدم بالامبريالية، ويركز على مقولة "الوحدة الوطنية" وبناء التحالف الوطني، الذي يضم الفلاحين والعمال والمثقفين ورجال الأعمال، ويبرز الجيش كأحد أعمدة التغيير والتحديث في المجتمع من خلال إجراءات وقوانين الإصلاح الزراعي، وسياسة التمليك والاستثمار، وتحديد ملكية الأرض، وتأميم الصناعات وبناء المشاريع الضخمة التي تتسم بالشمول والاستيعاب العام كسد أسوان. وإدخال عدة شعارات جديدة إلى قاموس السياسة العربية كمقولة "الاشتراكية" وحقوق الجماهير" ومكسب الحكم والشعب، "والتحرير والصمود"، والنماذج القومية. والحال هذه لم تبق العروبة، كما كانت في الحقبة الاستعمارية، أساسا أو مبدأ لرابطة سياسية، تكرس حلم الدولة العربية في الاستقلال وتكوين دول سيدة ومستقلة، يمكن أن تتوحد في المستقبل لتعوض عن انهيار حلم المملكة العربية، وإنما تحولت إلى حركة شعبوية تجمع بين العداء للاستعمار الأوروبي والكفاح ضد النخب والطبقات الاجتماعية الارستقراطية التي ستظهر وكأنها الحليفة الرئيسية للغرب الاستعماري. ولذلك انتقلت العروبة من تبني المفاهيم الليبرالية للحداثة الغربية: المواطنة، والنزعة الدستورية في حقبة ما بين الحربين، إلى تبني المقولات الأيديولوجية لحركات التحرر القومية، التي تقوم على خوض الصراع ضد الاستعمار الغربي، ومن أجل الاستقلال وتكريس سيادة الدول، لتتخذ شكل الثورة والانقلاب الاجتماعي والسياسي الذي يشكل مدخلا لاستكمال العمل من أجل الاستقلال غير الناجز والسيادة الناقصة. ومع صعود حركات الإسلام السياسي بعد هزيمة الحركة القومية العربية، تعمقت أزمة العروبة، بسبب العلاقة المتوترة بين العروبة والإسلام. فلا شك أن قضية العلاقة بين العروبة والإسلام،استقطبت ولا تزال اهتمام العديد من الحركات الإسلامية الإصلاحية والمفكرين القوميين العرب منذ عصر النهضة وإلى يومنا هذا. وبقدر ما نجد فريقاً من المثقفين يدافع عن الأطروحة التي تفترض علاقة التلازم بل التطابق الأصلي والتعايش التاريخي بين العروبة والإسلام، وإن أي خلاف بينهما لا وجود له، باعتبار أن واقعية العروبة تنبعث من حضارة الإسلام، وعلى دور الإسلام والعربية لغة وثقافة في تكريس مقومات العروبة وفي بعث الوعي العروبي، وعلى أن الإسلام يزود العروبة بركيزة حضارية قوية. بقدر ما نجد في المقابل فريقاً من المثقفين يدافع عن الأطروحة التي تفترض الخلاف والتناقض بين العروبة والإسلام، لاسيَّما الذين يجعلون من العروبة عقيدة قومية من جهة، ولدى الذين يرفضون التخلي عن الشرعية الدينية في السياسة لمصلحة القومية العلمانية البعيدة عن الدين. إذا أرادت العروبة أن تكون الخيار الأيديولوجي، والمشروع الثقافي للأمة العربية في القرن الحادي والعشرين، والهوية الثقافية المميزة للعرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، والهوية السياسية المؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي، فعلى العروبة أن تتبنى مفاهيم التعددية الفكرية والسياسية، والمواطنة، وإعادة تثمين الوطنية المحلية الدستورية والليبرالية، والتأكيد على مرجعية احترام حقوق الإنسان، والحريات الشخصية والاعتقادية، والديمقراطية. فالمشروع الديمقراطي النهضوي، هو الخيار العروبي الوحيد، الذي من خلاله يمكن للعرب أن يبنوا مستقبلهم السياسي والاقتصادي والثقافي، وأن يؤسسوا عبره وحدتهم الوطنية والقومية الحقيقية، بعيداً عن الانقسامات المذهبية والطائفية: سواء تمثلت في صعود الانقسامات المذهبية داخل الدين الواحد أو تنامي العصبيات الجماعية على أساس ديني بين أصحاب العقائد المختلفة. فالطائفية تعبر عن إخفاق السياسة القومية في بناء إطار تضامنات فعلية وطنية ما فوق طائفية. وكما يقول المفكر برهان غليون، حتى تنجح العروبة في استعادة مكانتها، ينبغي أن تغير أيضا من جلدها الذي أصبح ضيقا جدا عليها، وهو جلد الخمسينيات والستينيات الذي ارتبط في مفهومه وأسلوب تجليه وقيمه وغاياته بالقضية القومية، لتلبس جلد الفكرة الوطنية الإنسانية، أي أن تكون في نمط تفكيرها ووسائل عملها وغاياتها حاملا لقضية الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة الأخلاقية والقانونية. عندئذ ستكون عروبة للمستقبل، وسيرتبط بها لا محالة الانبعاث الفكري والاجتماعي والسياسي العربي القادم، فتكون أيديولوجية المستقبل لا أيديولوجية الماضي، سواء كان الماضي القريب القومي أو الماضي البعيد التاريخي أو الديني.