16 سبتمبر 2025
تسجيلالعنوان أعلاه، جزء من صيحة تاريخية لأحد عمالقة الإسلام، الذين كتب التاريخ اسمهم بأحرف من نور.. ذلكم هو الملك المظفر محمود بن ممدود ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، المعروف في التاريخ بسيف الدين قطز، أبرز ملوك المماليك والذي حكم مصر لعام واحد فقط، وكان عاماً فاصلاً لأمة الإسلام، إما الإبادة على يد جحافل همجية تترية أو العيش في عز وكرامة. لاحظ التدبير الإلهي العجيب في قصة قطز، التي لا تختلف عن قصة النبي موسى عليه السلام، الذي رباه الله وصنعه على عينه في عقر دار أحد جبابرة البشر، فرعون، الذي تولى أمر تربية ورعاية الرضيع موسى بناء على رغبة زوجته آسية، وهو للأمر كاره وغير راغب. يحدث هذا لأجل أن يؤدي الرضيع بعد أن يكبر، مهمة معينة قد كتبها الله في اللوح المحفوظ، وتتمثل في إنهاء فساد وظلم فرعون في وقت محدد لا يتغير، وقد كان. قصة موسى فرعون وهي تتكرر تتكرر قصة موسى مع فرعون، ولكن هذه المرة مع سيف الدين قطز والتتار.. يوم أن وقع في الأسر وكان صغيراً ومعه كثير من أطفال المسلمين في يد التتار المتوحشين، بعد أن اكتسحوا الدولة الخوارزمية، حيث تم بيعهم في دمشق.. وقد حدث ذات مرة وهو في الأسر كما تروي كتب التاريخ، أن ضربه سيّده وسبَّ أباه وجده، فبكى قطز ولم يأكل شيئاً سائر يومه، فقام العامل الذي يقدم الطعام للأسرى بتهدئته وأن الأمر لا يستحق كل هذا العناء والبكاء بسبب لطمة، وطلب منه أن يأكل، فقال قطز: إنما بكائي من سبّه لأبي وجدِّي وهما خير منه. فقال له العامل: من أبوك؟ قال: أنا محمود بن ممدود ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك.. واستمر الوضع هكذا حتى تم بيع قطز إلى سيد آخر، وهكذا كانت الأيادي تتناقله إلى أن وقع أخيراً في يد عز الدين أيبك، أحد أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر، فعاد تارة أخرى إلى الأجواء والبيوت الملكية، ثم كانت بداية رعاية وصناعة قائد، سيكون له شأن في قادم الأيام. وستكون نهاية التتار المجرمين على يده، كما كانت نهاية المجرم فرعون على يد موسى عليه السلام.. مما يروى أن قطز أخبر ذات مرة أحد أصدقائه عن رؤية له، حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بملك مصر وهزيمة التتار.. ولم يكن غريباً أن يرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في منامه وقد اشتهر بالصلاح والتقوى والعفاف والابتعاد عن الصغائر، والمواظبة على الصلاة والصيام ومجالسة وحب العلماء.. ثم في فترة وجيزة تقع حوادث في بيت الحكم، حيث يُقتل الملك عز الدين أيبك فتتولى زوجته شجرة الدر الحكم، ثم بعدها بقليل تقع ثورة ضدها فتموت خلالها، ليتم تعيين علي ابن الملك أيبك سلطاناً على مصر، وهو في الخامسة عشر من عمره، فتم تعيين قطز ولياً على السلطان.. وكان هو من يدير الحكم فعلياً في مصر، وقد استاء من انشغال السلطان الصغير بسفاسف الأمور وأفعال المراهقين، فيما التتار يواصلون تقدمهم نحو البلاد، بعد أن عاثوا في بغداد الفساد ودمروا الدولة العباسية، وهم في طريقهم لمصر، أهم حواضر الإسلام الباقية أمامهم.. القرار التاريخي أمام ذاك التحدي والتهديد الوجودي، اتخذ قطز قراره التاريخي، وعزل السلطان الصغير وتولى بنفسه الحكم، قبل أن يصل هولاكو وجيشه المتوحش إلى مصر بعشرة أيام فقط .. وبدأ من فوره بإلغاء كل مشاريع الدولة المتنوعة سوى مشروع أو هدف واحد لا غير، هو التجهيز لملاقاة التتار، وساعده على سرعة استجابة الناس له، قربه من العلماء وتدينه.. ثم عفا عن المماليك الذين ثاروا ضده وهربوا إلى الشام، فاجتمع الكل تحت راية الدين، وأنه لا خيار لهم أمام خطر رهيب يزحف سريعاً نحوهم، إما مواجهته ودحره، أو الفناء كما حدث للعباسيين في بغداد.. قرأ قطز رسالة وصلته من قائد التتار هولاكو على قادته، وبيان ما فيها من تهديد صارخ لهم، وطلب رأيهم. فقال كثيرون بالاستسلام للتتار وتجنب الحرب والدمار، فلم يعجبه هذا الرأي، ثم قال قولته الشهيرة:" أنا ألقى التتار بنفسي، يا أمراء المسلمين؛ لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجّه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإنَّ الله مُطَّلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخّرين عن القتال ". تحفز بعد هذا الكلام جميع الأمراء والقادة، من بعد أن رأوا ملكهم وقد قرر أن يخرج بنفسه لملاقاة العدو، حيث خطب فيهم باكياً.. ومما جاء في خطبته:" يا أمراء المسلمين؛ من للإسلام إن لم نكن نحن؟ ".. رسالة واضحة للجميع أن الإسلام ينتظر اليوم موقفاً من أتباعه، فإن لم يقف المسلمون مع دينهم فمن يقف؟ رسالة لكل مسؤول في كل زمان ومكان، أن العز والمجد لا يكون إلا لمن يخدم الإسلام ويدافع عنه، وإلا فلا مجد ولا عز في خدمة غيره، وشواهد التاريخ أكثر من أن نحصيها في هذه المساحة المحدودة.. وقد ساعد قطز على بث روح الجهاد ورفع المعنويات في نفوس العامة والأمراء، وقوف الشيخ العز بن عبد السلام معه، ودعوته للجهاد على كل منبر، حتى كان يوم عين جالوت.. وا إسلاماه عين جالوت .. يوم عصيب مر على المسلمين، اضطر قطز أن ينزل بنفسه إلى ميدان القتال بعد أن كان يدير المعركة، وكاد أن يُقتل بسهم تتري أخطأه وأصاب فرسه، حتى اشتدت الأمور فقام يقاتل مترجلاً بل زاد، من أجل تثبيت جنوده ورفع روحهم المعنوية، فألقى بخوذته على الأرض تعبيراً عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة: وا إسلاماه.. فدارت الدائرة على التتار حتى صارت عين جالوت، موقعاً للفناء الحقيقي لهم، وفيها أراح الله العالم من شرهم على يد أناس، صدقوا الله فصدقهم، ونصروه فنصرهم وأعزهم أيما إعزاز وإكرام. لاحظ مرة أخرى التدبير الإلهي العجيب في قصة قطز كما كان مع النبي موسى عليه السلام.. فهناك يقوم فرعون بإهانة بني إسرائيل ويسومهم سوء العذاب، يقتّل أبناءهم ويستحي نساءهم، إلى أن يقوم هو بنفسه برعاية أحد أبناء بني إسرائيل في قصره، ليشتد عوده بعد حين من الدهر، فيكون هلاك الطاغية فرعون على يد هذا الصغير الذي رباه ورعاه! يحدث مع قطز بالمثل.. فهناك التتار يخسفون بكل شيء أمامهم. يقتلون ويحرقون وينهبون ويأسرون.. يصلون إلى دولة خوارزم، فيقتلون رجالها ويسبون نساءها ويأسرون أطفالها. لا شفقة ولا رحمة ولا أخلاق أو نبل المحاربين والفرسان تضبط أعمالهم وتصرفاتهم.. حضارة همجية انطلقت من أعماق الصين لتنطلق نحو الخارج، تنشر ثقافة الموت والهدم والخراب وتعاند البناء والصناعة والحياة.. وهكذا الأمر يستمر إلى أن يشاء الله، ويتم أسر طفل من أطفال ملوك خوارزم ولكن لا يتم قتله، بل بيعه في دمشق وأكل ثمنه، ولم يدر بخلد أولئك المتوحشين أن هذا الذي باعوه في سوق الرقيق وأكلوا ثمنه اليوم، سيكون هو من يوقفهم عند حدهم في قادم الأيام، وينهي حضارة الموت والهدم التي لازمتهم منذ بزوغ نجمهم، وما أضافت للحضارة الإنسانية غير تخسير.. فكان ما كان في معركة عين جالوت الخالدة.. بعد أن تهدأ الأوضاع ويتنفس العالم الإسلامي الصعداء بزوال المغول، يموت محمود بن ممدود الخوارزمي، أو سيف الدين قطز، بعد أن أمضى عاماً واحداً في الحكم فقط، ما يعادل عشرات الأعوام عند ملوك آخرين.. عام واحد فقط، حصد قطز والمسلمون معه، أعظم نتيجة يمكن تصورها، وهي فناء وهلاك التتار، الذين لم يكن يتصور أحد يومها أنهم سيهلكون، أو كيف سيكون هلاكهم وفناؤهم.. حتى قال كثيرون إن قطز إنما حياته كانت مراحل متنوعة من التربية والإعداد الرباني لصناعة قائد يحقق هدفا واحدا محددا مطلوبا منه، وما إن يتحقق الهدف حتى يختفي من المشهد فوراً وبخاتمة لا تتناسب مع رجل عظيم مثل سيف الدين قطز.. لكن هكذا الأقدار وهكذا هي المشيئة والحكمة الإلهية.. رحم الله قطز ورضي عنه وأرضاه.