12 سبتمبر 2025

تسجيل

نوح بن أبي مريم وكذبه على النبي

09 يوليو 2015

لم تحظ حضارة من الحضارات بتتبع الكذابين في آثارها مثل الحضارة الإسلامية، حيث خضعت أحاديث الرسول للدراسة الواعية في السند والمتن، ووضعت شروط صعبة ومناهج منضبطة لقبول الرواية عن الرسول، حتى تسلم هذه النصوص من أي دخل، ولتكون معدة لاستنباط الأحكام بناء على ألفاظها.وقد وضعت كتب التراجم لبيان أحوال الرواة من حيث الصدق والكذب، والتذكر والنسيان والضعف والوهم، ووضعوا الكذابين في مقامهم وعرفوا بهم كي يحذرهم الناس، ولا تقبل لهم عند أهل الدراية رواية، ومن هؤلاء الكذابين نوح بن أبي مريم، واسمه أبو عصمة القرشي، قاضي مرو. كان أبوه مجوسيًا ويقال له: "نوح الجامع"، وسمي"الجامع"، لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والحديث عن حجاج بن أرطاة وطبقته، والتفسير عن الكلبي ومقاتل، والمغازي عن ابن إسحاق، وكان مع ذلك عالمًا بأمور الدنيا. وكان شديدًا على الجهمية والرد عليهم، تعلم منه نعيم بن حماد الرد على الجهمية. ولكنه كان مع ذلك كله ذاهب الحديث، ليس بثقة، لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن حبان: "نوح الجامع: جمع كل شيء إلا الصدق"، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 111، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 484.وقد روي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة.وما يقوله نوح بن أبي مريم نسمعه كثيرا من الذين يبتدعون في الدين ويتبعون أهواءهم، خاصة من الذين يتخذون دينهم لهوا ولعبا، ومن الذين يتخذون التأويل مذهبا ليجعلوا النص وفق آرائهم، فإن لم يسعفهم التأويل لجأوا إلى الكذب والقول بغير حق، ومن طرائف ذلك ما قاله الحافظ العراقي في شرح التبصرة: ذكرَ الإمامُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ منصورٍ السَّمعانيُّ : أنَّ بعضَ الكَرَّاميَّةِ ذهبَ إلى جوازِ وضعِ الحديثِ على النبيِّ?، فيما لا يتعلقُ به حكمٌ من الثوابِ والعقابِ ترغيباً للنَّاسِ في الطاعةِ، وزجْرَاً لهم عن المعصيةِ . واستدلوا بما رُويَ في بعضِ طُرقِ الحديثِ: ((مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمِّداً -ليُضِلَّ بهِ الناسَ- فلْيَتبوَّأْ مَقْعدَهُ من النارِ)). وحملَ بعضُهم حديثَ مَنْ كذبَ عليَّ، أي: قالَ: إنّهُ ساحرٌ أو مجنونٌ. وقال بعضُ المخذُولِينَ: إنّما قالَ مَنْ كَذَبَ عليَّ، ونحنُ نكذبُ لَهُ ونقوِّي شَرعَهُ. نسألُ اللهَ السلامةَ من الخِذْلانِ".إنني عندما أطالع قصة هذا الرجل أجد أن هناك إجماعا على أنه كان واسع العلم مطلعا، ولذا سموه الجامع، فقيل لقب بذلك لأنه أول من جمع فقه أبي حنيفة وقيل لأنه كان جامعا بين العلوم له أربعة مجالس مجلس للأثر ومجلس لأقاويل أبي حنيفة ومجلس للنحو ومجلس للشعر روى عن الزهري ومقاتل ابن حيان مات سنة ثلث وسبعين ومائة وكان على قضاء مرو لأبي جعفر المنصور.انظر كتاب تاج التراجم في طبقات الحنفية.وهذا استوقفني كثيرا، إذ كيف يجمع الإنسان العلم ثم تراه يكذب ويتبع هواه، ثم كيف لمن جرحه العلماء أن يلي منصب القضاء؟.وفي رأيي أنه اغتر بعلمه، وأعجبه سماع الناس له، فلم يجد حرجا في نفسه أن يكذب، أما ولايته القضاء فإنها من أكبر الأخطاء، إذ كيف به يؤتمن على حقوق الناس بعد أن كان كذابا، وكذبه سيجعله يتعاطف مع الكذابين وشهود الزور، وهذا استنباط حاولت أن أبحث له عن مجلس قضاء فلم أجد، وهذا يجعلني أقول إنه لم يكن قاضيا مشهورا بعدله أو بفضله أو بذكائه حتى يتذكره الناس، بل كان لكذبه أثر في ترك مجالس قضائه وتتبعها، ومهما يكن من أمر فهذا صنف من أصناف الكذابين خصصنا له الحديث اليوم.