14 سبتمبر 2025

تسجيل

اغتيال عرفات.. ملف مفتوح

09 يوليو 2012

منذ رحيل ياسر عرفات عام 2004 كان يجب وضع كل الاعتبارات جانباً والشروع في تحقيق عميق وفاعل للتوصل إلى نتيجة. كانت هذه مهمة دول وأجهزة عربية بشكل أولي واستثنائي، إلى جانب أي لجنة فلسطينية خاصة. لماذا؟ لأن المسألة لم تكن مسألة وفاة رجل، ورغم أن الوفاة يمكن أن تكون طبيعية وعادية إلا أنها في حال عرفات كانت شبه معلنة قبل أوانها، كما أن مراحل المرض منذ بدايته لم تكن عادية، ولم تكن لها مقدمات ولا سوابق، ثم أن قادة العدو الإسرائيلي، وعلى رأسهم أرييل شارون لم يخفوا نياتهم بضرورة التخلص من الرئيس الفلسطيني. كانت تصفية عرفات، بالنسبة إلى العرب، ضربة مباشرة لشروط "عملية السلام" التي اعتبروها خياراً استراتيجياً في كل مؤتمرات القمة العربية، مؤكدين بذلك تخليهم عن خيار الحرب الذي لم يبد أن إسرائيل أخذته يوماً في الاعتبار، وطالما أن "عملية السلام" قامت أساساً على التفاوض وحتمية قبول المفاوض الآخر، فإن إقدام إسرائيل على محاصرة مقر عرفات ومهاجمته وتدمير أجزاء منه مثل انتهاكاً واضحاً لقواعد التفاوض وتمهيداً لتقويض خطير لـ"عملية السلام"، والدليل أن شطب المفاوض الفلسطيني الأول، أي عرفات، وبموافقة ضمنية من جانب الولايات المتحدة وإدارتها البوشية آنذاك، نسف إمكانات إحياء المفاوضات، ولم يعد السلام أولوية أمريكية أو إسرائيلية. بعد مضي خمسة أعوام على سياسة المسالمة، ورفض العسكرة وبذل أقصى الجهود للتنسيق الأمني، أدركت القيادة الفلسطينية التالية أن إسرائيل اغتالت عرفات لتقول إن "السلام" دفن معه، وأن ما تحقق منه خلال حياته هو أقصى ما تعتزم التنازل عنه، بل أنها انتقلت إلى استغلال نهج المسالمة للتوسع في سرقة الأراضي الفلسطينية ومد رقعة الاستيطان مستهزئة بالإدانات الدولية التي تذكرها بالقوانين الدولية، أكثر من ذلك لم تجد إسرائيل في إعلان الجانب الفلسطيني اعتماد المقاومة الشعبية السلمية ما يلزمها بالإقلاع عن العنف المفرط وإفلات ميليشيات المستوطنين للإمعان في الاعتداء على الفلسطينيين وأملاكهم وأرزاقهم، وحتى عندما اتجهت السلطة الفلسطينية إلى المطالبة بنيل اعتراف مجلس الأمن بالدولة الفلسطينية، جردت الولايات المتحدة وإسرائيل حملة دبلوماسية شرسة لتعطيل هذا التحرك المشروع، وفي إطار هذه الحملة أرسلت واشنطن وفداً مهمته تهديد الرئيس محمود عباس، كما أن العديد من متطرفي الحكومة الإسرائيلية طالب بالتخلص منه. لا يعني ذلك سوى أن إسرائيل أقامت باغتيال عرفات نهجاً لن تتردد في تكراره إذا لم يفهم الطرف الآخر مغزى رسالة الاغتيالات التي كانت حصدت العديد من القادة، ومنهم الشيخ أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي، وأبو علي مصطفى، قبل أن تقر حكومتها الشارونية اغتيال عرفات بأسلوب استخباري يحول دون استشهاده علناً، لكن الشكوك في وجود عملية مبرمجة للاغتيال بدأت منذ الأنباء الأولى عن "المرض الغامض" الذي يعاني الرئيس الفلسطيني منه. وقبل الوفاة في المستشفى الفرنسي وبعدها نبه الأطباء إلى وجود حال لم يتمكنوا من تشخيصها، خصوصاً أنهم واظبوا طوال أعوام مضت على متابعة وضعه الصحي الذي راح يتدهور تدريجيا، وقد حالت التطورات السياسية دون موافقة عرفات - أو حتى تمكنه - على مغادرة مقره للعلاج، إذ كان يخشى منعه من العودة إليه. في تلك الآونة، وبعد إنذارات الأطباء، كان يجب أن يبدأ التحقيق، بقرار من عرفات شخصياً أو من دونه، وكان يجب أن يكون هناك من بعض العواصم العربية المعنية بالشأن الفلسطيني باعتبار أن المسألة سياسية أولاً وأخيراً. صحيح أن فحوصاً شتى أجريت طبياً ولم تتوصل إلى شيء، إلا أن أي جهاز مولج بالتحقيق لابد أن يعرف أن دولاً كثيرة ومنها إسرائيل توصلت إلى ابتكار أنواع خفية من السموم، وحتى بعد الوفاة كان على التحقيق أن يذهب إلى أقصى الاحتمالات وأكثرها ضعفا، وها هو التحقيق الذي أجرى في المختبر السويسري لمصلحة قناة "الجزيرة" يتوصل إلى فرضية صعبة، وكان الأحرى بالتحقيق "الرسمي" أن يبلغها قبل الآن ليتمكن من التقدم أكثر في حصر الاشتباهات، وهي هنا تقتصر على إسرائيل دون سواها. كان لاغتيال الجاسوس الروسي السابق الكسندر ليفتيننكو عام 2006م، والكشف سريعاً أنه سمم بمادة "البولونيوم" شديدة الإشعاع، أن يدق الناقوس للمحققين الفلسطينيين، سواء لدرس الأعراض التي ظهرت على ليفتيننكو والمراحل التي مر بها خلال مرضه، أو لرصد احتمالات العلاج التي لا يبدو أنها متوافرة، وإلا لكان الأطباء والانجليز توصلوا إلى إنقاذ المريض الروسي، وبحسب الخبراء فإن هذه المادة السامة تصنع ذرياً وتصيب المستهدف بها بإشعاعات لا تظهر آثارها في تحاليل الدم، وبالتالي فإنها لا تتوافر إلا لدى الدول التي تملك قدرات وأنشطة نووية عسكرية، ومن شأن ذلك أن يضيف نطاق أي تحقيق في عملية الاغتيال، لا للعثور على مصدر "البولونيوم" الذي اكتشفت آثاره في مقتنيات عرفات وإنما لحصر مسؤولية إسرائيل والعثور على ما يؤكد وجود قرار يخوّل الأجهزة الاستخبارية إزاحة الرئيس الفلسطيني بأي وسيلة تبعد الاشتباه عن الجهة المتورطة. الاكتشاف الجديد في العملية يؤكد الشكوك السائدة بأن عرفات قتل بالسم، وإذا كان للجامعة العربية أن تدرس القضية وتتخذ قراراً بشأنها، فإن المطالبة بتحقيق دولي لابد أن تصطدم بـ"فيتو"، أمريكي في مجلس الأمن، أما اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لوضع مثل هذا التحقيق على جدول الأعمال الدولي فقد لا يذهب بعيداً، لعل الأهم والأكثر فاعلية أن تتبنى دول الجامعة إنشاء لجنة تحقيق محترفة تعمل بعيداً عن الأضواء وتستخدم معلومات الأجهزة الاستخبارية وعلاقاتها، أساساً كان من الخطأ اعتبار الملف مغلقا، أو أنه يخص الجانب الفلسطيني وحده، فالاغتيال كان فصلاً سياسياً زعزع المصلحة العربية في إقامة سلام، وخطورته تكمن في احتمالات تكراره، أي أن العدو الإسرائيلي سيكرس قاعدة تصفية المفاوض كلما أراد خلط الأوراق وتغيير متطلبات أي سلام.