11 سبتمبر 2025

تسجيل

صناع الواقع والوعي الاجتماعي

09 يونيو 2018

تلعب وسائل الإعلام دوراً محورياً في صناعة الوعي الاجتماعي وفق معايير وأنماط محددة، تتحكم فيها السلطة على حساب إرادة الشعب والرأي العام والحقيقة والفضاء العام. وحسب الآليات التي تحكم عمل المؤسسات الإعلامية ومصالح السلطة، فإن ما يقدم من أخبار ومعلومات ومعطيات لا يخرج عن الإطار العام الذي تحدده الصناعات الإعلامية والثقافية العالمية وبدرجة ثانية المؤسسات الإعلامية المحلية التي تردد في غالب الأحيان ما يأتيها من وراء البحار، تصاعدت الانتقادات الموّجهة لوسائل الإعلام بمختلف أنواعها في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والحرب على العراق والأعمال الإرهابية والإجرامية التي شهدتها أنحاء عديدة من العالم والحصار المفروض على دولة قطر منذ الخامس من يونيو من العام الماضي. من جهة أخرى، أدى الانتشار الكبير لتكنولوجيا الاتصال والإعلام إلى تزايد وتوسع المؤسسات الإعلامية في معظم دول العالم، وترك انعكاسات وتداعيات كبيرة في الصناعات الإعلامية والثقافية، حيث أصبحت تأثيرات وسائل الإعلام جلية في جميع مناحي الحياة. فمنهم من يرى أن الانتخابات تصنعها وسائل الإعلام وخاصة التلفزيون، ومنهم من يؤكد أن الحرب بدون تلفزيون لا تعتبر حربا. والاقتصاد والتسويق بدون إعلانات وبدون ترويج عبر وسائل الإعلام لا يعتبر اقتصادا والأحداث الرياضية العالمية والألعاب الأولمبية إذا لم تنقلها وسائل الإعلام ولم ترعها كبريات الشركات المتعددة الجنسيات في العالم لا يدري عنها أحد. العمليات الإرهابية كذلك والجرائم والنزاعات والانقلابات العسكرية والكوارث الطبيعية كلها أحداث تتهافت وسائل الإعلام على تغطيتها ومتابعتها أولا بأول. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف تتم هذه التغطيات وكيف تتم عملية الانتقاء والإقصاء وما هي الآليات التي تحكم صناعة الأخبار ومخرجات وسائل الإعلام؟ كيف يقدم الخبر وفي أي إطار يوضع ويقدم للجمهور، على أي أساس تتم عملية الاختيار أو الإبعاد؟      يرى نقاد الصناعة الإعلامية أن وسائل الإعلام لا تزودنا فقط بالمعلومات والقضايا والأحداث التي تجري من حولنا محليا وإقليميا وعالميا، بل تزودنا كذلك بمنظور معين وبإطار محدد لتلقي هذه الأحداث    وهذه القضايا وتفسيرها وتحليلها وفهمها. والسياق مهم جدا، لأنه يعتبر المرحلة الأخيرة في فهم الحدث وتفسيره. وهذا يعني أن وسائل الإعلام تضع الأحداث والقضايا داخل سياقات وأطر خاصة ومحددة وفق آليات وأعراف متفق عليها ضمنيا في قاعات التحرير وفي وكالات الأنباء العالمية، وإمبراطوريات الإعلام والاتصال. أما باقي ناقلات الأخبار عبر العالم سواء في جنوبه أو شرقه أو غربه فما هي إلا صناديق بريد تردد في معظم الأحيان ما تنقله وتوزعه كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية. لا تحدد لنا وسائل الإعلام ما نشاهده ونقرأه فقط، بل تحدد لنا كذلك كيف نقرأ الأحداث وكيف نفهمها وفي أي إطار نضعها لنفسرها ونحللها. فالأطر التي تضعها وتحددها وسائل الإعلام هي عبارة عن أنماط ثابتة مستمرة من العمليات المعرفية والسياقات التفسيرية للمعلومات التي تعمل على الانتقاء والتأكيد والاستبعاد والتي يقوم من خلالها صناع الخطاب الإعلامي بالتنظيم النمطي والمنهجي لمخرجات وسائل الإعلام.     أصبحت وسائل الإعلام من أهم صناع الوعي الاجتماعي وبناء الواقع من خلال استحواذها على نسبة كبيرة من وقت الفرد في المجتمع. هذه الوسائط أصبحت تفبرك الواقع وفق آليات معينة وأطر محددة لتحقيق أهداف مدروسة مسبقا. قد يكون ميثاق الموضوعية صالحا في حدود الدولة فقط، لكن عندما ينتقل الموضوع إلى نزاع بين دولة الصحفي أو المؤسسة الإعلامية ودولة أخرى، فتصبح الموضوعية أسطورة وخرافة. وهنا تصبح المؤسسة الإعلامية والصحفي غير ملزمين بتقديم وجهتي نظر الدولتين محل النزاع. فالصحفي ينحاز بطريقة أوتوماتيكية لبلده، وإذا قدم أطروحة البلد الخصم يصبح خائنا وغير وطني وغير متفان في خدمة وطنه. وهذا ما أكدته الأحداث التاريخية كتعامل الإعلام الفرنسي مع حرب التحرير الجزائرية، أو تغطية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، أو الصراع بين أمريكا وكوبا، أو حرب الخليج الثانية والثالثة... الخ. يفرض منطق التعددية الديمقراطية على وسائل الإعلام إعطاء نفس الفرص ونفس المساحة لمختلف القوى السياسية والاقتصادية في المجتمع. لكن وسائل الإعلام، ومع الأسف الشديد، تعمل وفق ضغوط وقيود خفية تقصي كل ما من شأنه أن يحاول التغيير في المجتمع أو يهدد النظام الاجتماعي والنظام السياسي والاقتصادي، وكنتيجة لهذه الآليات الخفية والميكانيزمات المحددة سلفا، فإن وسائل الإعلام تقوم بالدور الإستراتيجي في عملية التحكم الاجتماعي حيث إنها تعمل كعميل للنظام القائم. وبهذا المفهوم، فإن ميثاق الموضوعية نفسه ما هو إلا آلية للتحكم الاجتماعي. أصبح الفضاء الإعلامي في القرن الحادي والعشرين ملوثا يفرز وينشر ثقافة لقيطة دخيلة ترفض الديمقراطية والمشاركة السياسية والسوق الحرة للأفكار والمساهمة في صناعة القرار وثقافة الرأي والرأي الآخر والحوار والنقاش. فالصحفي كمثقف في المجتمع أصبح يساير التاريخ ويبرره بدلا من مساءلته والعمل على تغييره، وأصبح يقرأ الواقع بعيون القوى السياسية والاقتصادية الفاعلة في المجتمع. فبدلا من الكشف والاستقصاء والبحث عن الأسباب والنتائج والانعكاسات للأحداث والوقائع التي يعيشها المجتمع، يصف الصحفي الأشياء ويبررها وفق الأيديولوجية السائدة والمسيطرة في المجتمع. في الأخير تكون النتيجة الحتمية لتلوث الفضاء الإعلامي انقراض المثقف العضوي في المجتمع وانتشار المثقف السلبي، المستسلم والمهزوم، الذي بدلا من أن يتحدى الواقع ويعمل على تغييره وتحسينه، يستسلم للقوى الفاعلة في النظام ليصبح أداة من أدواته تعمل على تبرير الواقع وتمجيد السلطة باسم الرأي العام والديمقراطية والتعددية. هذا لا ينفي وجود أصوات رافضة لهذا الوضع ومثقفين يعملون من أجل الخروج من هذه الحلقة القاتلة – الانجراف الثقافي وانتشار الثقافة المعلبة الدخيلة واللقيطة- لكن مع الأسف الشديد، الكفة تميل أكثر باتجاه الفريق الأول الذي يروّج لثقافة التبرير والتبعية والاستسلام.