16 سبتمبر 2025
تسجيلمن تعلم لغة قوم أمن مكرهم. وعلى رغم أن العبارة تعارف الناس عليها أنها حديث نبوي، إلا أنها غير ذلك، ولا أصل لها في كتب الحديث، لكن معناها صحيح لا غبار عليه. فمن يتعلم لغة قوم، أو يدرس فكرهم وثقافتهم وأساليب حياتهم، فلا شك أنه سيتعرف عليهم بشكل دقيق، وبالتالي يختار الطريقة المناسبة في التعامل معهم، والأهم من ذلك، أنه يأمن بذلك العلم جانبهم ومكرهم. وهذا تماماً ما يحدث في غزة، رغم التضحيات الكبيرة التي تقدمها، لكن هكذا هي طبيعة التحولات التاريخية العظيمة. وحتى لا أطيل في المقدمة، دعني أدخل في الموضوع مباشرة. حماس هي أكثر جماعة تفهم العقلية الصهيونية، وأكثر جماعة تعاملت مع الفكر الصهيوني في السلم والحرب، على رغم حداثة عمرها مقارنة بفصائل فلسطينية أخرى، وبالتالي لا أظن أن موافقتها على بنود اتفاقية وقف إطلاق النار قبل أيام كان نتيجة ضغوط، بقدر ما كان عن دراسة وفهم عميق لعقلية العدو. ظني أن حماس أرادت أن تحشر العدو في زاوية صعبة، وتكشفه للعالم أجمع بأنه طرف مخادع لئيم خبيث، لا يهمه قانون أو ميثاق، ولا يحترم عهداً أو ذمة، وأنه لا يدخل أي مفاوضات سوى لممارسة فعل التفاوض ليس أكثر. لا ينتظر منها نتيجة، أو بالأصح، لا يرغب في نتيجة سوى التي يراها صالحة له هو فقط، وليس غيره. حماس استثمرت التعاطف العالمي المتزايد معها، لاسيما حركة الاحتجاج الطلابية بالجامعات الأمريكية، والمتوقع نموها واتساع رقعة انتشارها، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل العالم كله بإذن الله، والذي يتطلب فعلياً الإسراع باستثمارها على كل صعيد ممكن. ولعل موافقة حماس على الاتفاقية جاءت من هذا الباب وليس من باب الضغوط. هذه نقطة أولى في كيفية إدارة أزماتك، عبر فهم عميق لفكر أو عقلية عدو متعجرف ومتكبر. لغة القوة أما النقطة الأخرى في مسألة فهم عقلية العدو، أن قادة حماس السياسيين والعسكريين على حد سواء صاروا على دراية كافية به وبكيفية تفكيره، خلاصتها أن لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العدو أكثر من لغته العبرية أو الإنجليزية أو حتى لغات الحاسب والإشارة. هذا الفهم العميق عند قادة حماس لهذا الأمر وهم يتعاملون مع جنس بشري صاحب فطرة خبيثة، ليس وليد اليوم، وإنما بفعل خبرات متراكمة عبر سنوات الصراع معه، بالإضافة إلى أن هذا الفهم للعدو جاء من سيرة قدوتهم الرفيعة وقدوة كل مسلم، سيد البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - حين تعامل مع يهود المدينة باللغة التي يفهمونها. لغة القوة، من بعد أن وصل أذاهم للإسلام والمسلمين درجة لم تنفع معها أساليب ولغات التسامح والتعايش وما شابهها. ما يجري اليوم في غزة، رغم التفاوت المادي في العدد والعتاد بين حماس والعدو الصهيوني، إنما هو جزء من صراع مفهوم ومستمر، أو إن صح التعبير، صراع بين الحق والباطل، الذي لن ينتهي بانتهاء مسألة أو أزمة، بل يظهر من جديد بصورة مختلفة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. المسألة واضحة لا تحتاج لكثير شروحات وتفصيلات. هناك احتلال قائم في جهة، مدعوم من قوى عالمية تعتبره رأس حربة لها في وجوده بالمنطقة، ومن جهة أخرى، شعب يقاوم. هذه هي القصة باختصار شديد دون كثير مساحيق مادية أو إعلامية، ودون تزوير في حقائق التاريخ أو الجغرافيا. حماس ولأنها فهمت وهضمت الفكر الصهيوني وكيفية تعامله مع الوقائع على الأرض، صمدت أمام قوة هذا العدو الباغي المعتدي، والمدعوم بشكل لا نظير له. صمود حماس السياسي والعسكري كان بمثابة الشرارة التي أشعلت نار الاحتجاجات في العالم ضد عدوان صهيوني همجي على شعب يقاتل من أجل أرضه وعرضه وماله. غزة.. أمل الأمة الباقي من هنا يمكن القول بأن حماس هي الجذوة المتقدة الوحيدة الباقية في هذه الأمة، التي يمكن أن تنير وتشعل محركات الدفع والقوة في الأمة. ومن غزة ربما تنهض الأمة من جديد وتسود. ولعل هذا يفسر لك سر تكاتف الشرق والغرب على اطفاء هذه الجذوة أو الشعلة، مهما كان حجمها. فقد ارتعب الغرب تحديداً من ثورات الربيع العربي التي أجهضت بتكاتف عربي رسمي وغربي صهيوني، وما يحدث الآن في غزة منذ أشهر سبعة، يبعث على خوف وقلق شديد جديد من أن تكون أحداث غزة، شرارة ربيع عربي أو مسلم جديد، كما كانت من تونس البوعزيزي في الموجة الثورية العربية الأولى قبل أعوام أربعة عشرة مضت. ما يحدث في غزة إذن، على رغم سعادة الغرب في بدايات العدوان، ورغبته في التخلص من آخر قوة مسلحة سنية بالمنطقة، صار الوضع مخيفاً لهذا الغرب، لأنها ربما تمهد الأرضية المناسبة لعودة أو نهوض أمة العرب والمسلمين مرة أخرى. إنها عودة أو نهضة لا شك ستكون مقلقة جداً للشرق القريب قبل الغرب البعيد. ولهذا يحدث ما يحدث لغزة الآن من محاولات حثيثة لجعلها تركع وتستسلم بكل الطرق. ولكن لأن غزة، بسياسييها وعسكرييها، وفهمهم العميق لعقلية العدو، قادرة بإذن الله أن تجعل العدو هو من يركع ويستسلم بطريقة وأخرى. والأمر يبدو أنه يتجه إلى هذا بإذن الله (ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريبا).