15 سبتمبر 2025
تسجيلبدا الأمر مجرد تصفية حساب على الطريقة التكساسية بين طرفين يعرف أحدهما الآخر، وبينهما ثأر، فلا مجال للكلام وإنما لمن يطلق الرصاصة أولاً، ليست العدالة هي التي تحققت وإنما الانتقام إلى أقصاه، إلى حد منع الخاسر، وهو تراب، من أن يعود إلى التراب، أي إلى حد إلغاء إنسانيته، لا ضريح، إذن لا مزار، فلا أثر يمكن أن يشهد على أن الميت كان، ولا مجال لتخليده، إلا في الأذهان، لكن من سيحتاج إلى تخليد أسامة بن لادن؟ شاءت رمزية الحدث أن يقتل بن لادن في الوقت الذي كان العالم العربي يتجاوزه تماما، بفضل الثورات الشعبية التي يشكل وقودها ومحركها شباب كان البنلاديون يحلمون بأن يستقطبوهم ليقاتلوا إلى جانبهم في المعركة الخاسرة سلفا، لكن هؤلاء الشباب دخلوا معترك الحياة في اللحظة التي ضرب الإرهاب ضربته في هجمات 11 سبتمبر، ونالهم من تداعياتها الكثير من الأذى، خصوصاً في إقبالهم على العالم وانفتاحهم على التقنيات الحديثة، وبالتالي اكتشافهم كم أن بن لادن وأتباعه أساؤوا إلى الإسلام والعرب، لعلهم يخشون الآن بعدما قتل زعيم "القاعدة"، أن يعيد قتله خلط الأوراق ويحيي الأشباح التي جهدوا لإبعادها عن حياتهم. من أسباب هذه المخاوف أن أمريكا المنتشية بالانتقام لم تعرف، وهي الدولة العظمى، كيف تضبط أعصابها أقله على مستوى من يملكون عناصر القصة ويعرفون ما الذي حدث فعلا، لم يكن هناك ما يدعو لتعدد الروايات وتناقضها، أو ما يدعو لادعاء شيء ثم نفيه، أو أخيراً ما يدعو للكذب، كانت تلك مهمة للقتل المرخص، وكان الهدف شخصا يرغب في "الاستشهاد"، ولو أن إقامته في ذاك المجمع الهادئ الآمن كانت أقرب إلى الاختباء والتواري منها إلى المواجهة والمجازفة، جاء الترخيص بالقتل من رأس السلطة في الولايات المتحدة الذي جلس في الموعد المحدد يشاهد العرض الحي المباشر للعملية، وقيل إنه حرص على الحضور "للاطمئنان إلى سلامة" جنوده الذين يقومون بالمهمة، لكن الأهم كان الاطمئنان إلى أنهم سيعودون بـ"الجثة" كدليل على أن المهمة اكتملت. قبل ذلك وبعده، كانت لباراك أوباما متاعب كثيرة مع معسكر الاعتقال في غوانتانامو مع الثلة من "القاعديين" المطروحين للمحاكمة لكنهم لا يثيرون أي رأي عام كما كان ليفعل اعتقال أسامة بن لادن ومحاكمته، كان بالغ الأهمية تفادي المحاكمة، لأنها كانت ستجدد الجدل حول تعريف الإرهابي وهل اعتباره مجرما يزهق الأرواح يحول دون الاعتراف به كائنا سياسيا امتهن الإرهاب وسيلة لتحقيق طموحاته، صحيح أن الوسيلة مرفوضة وأن صاحبها يستحق العقوبة القصوى، لكن في أي محاكمة – حتى لو كانت عسكرية – لابد أن يسأل "لماذا"، وأمريكا لا تريد أن تسمع منه أو من أي أحد سواه لماذا فعل ما فعل، فهي سألت نفسها وأجابت: لأنهم يكرهوننا لأنهم يريدون تدمير ديمقراطيتنا وتغيير طريقة حياتنا. بعد قتله ونقل جثته اشتعل الجدل الأول، قيل إنه قاوم فأصيب ثم قيل إنه استخدم امرأة كدرع بشري، كانت كذبة ثم أخرى، لم يكن حاملا السلاح في تلك اللحظة، ثم رددت كل وسائل الإعلام مصطلح الـ"دابل تاب" أي الطلقتين، للتأكد من أنه قتل، ثم قيل إنه "دفن" في البحر وفقا للعادات الإسلامية، فكان الجدل الآخر الذي لم يقر بأن إلقاء الجثة في البحر دفن ولا هي من عادات أي ديانة معروفة، لا شك أن ما حصل هو تصرف بالجثة، صحيح أن الرجل لم يهتم بما حصل لآلاف الأبرياء الذين قضوا في حريق البرجين وانهيارهما في نيويورك، لكن دولة عظمى عندما ترسل رجالها لقتل شخص لا يتوقع منها أن تكون خائفة إلى هذا الحد أو مربكة حيال جثته، كان بالإمكان دفنه في أي مكان وليحصل ما يحصل في ما بعد. ثم جدل آخر، هل أن موت بن لادن يمكن أن يعني موت "القاعدة"، أيضاً؟ ثمة كثيرون جزموا أنها ماتت قبله، وآخرون تنبأوا بأنها على العكس ستقوى وتزداد انتشاراً، الجميع توقع عمليات انتقامية، وإذ اتفق المحللون على أن العملية عززت شعبية أوباما في بداية حملته لإعادة انتخابه لولاية ثانية، لفت البعض إلى أن الناخبين يريدون مزيدا من الجثث لشخصيات الصف الأول لـ"القاعدة"، لكن هناك من يريد "قتل حلمه"، أي حلم؟ ليس واضحا تماما، إنما يمكن استنتاج ذاك الحلم من الطريقة التي عمل بها ومن الخطاب الذي حمله أفكاره، الطريقة تعني للبعض أن بن لادن أراد إشعال حرب شاملة بين الغرب وبين العرب والمسلمين، مثلما عنت لبعض آخر ما سمي "صدام الحضارات". لعل الجديد في هذا الجدل أن الإرهاب، لم يعن فقط القتل والتفجير، وأن القاعدة لم يعد ينظر إليها كشبكة انتحاريين وقتلة، إذاً فالأمر يتعلق بفكرة أو حتى بأفكار، وهذه لا تموت بموت صاحبها، ربما يساهم قتل أسامة بن لادن في توضيح "الصراع السياسي" الذي كمن دائما وراء الحرب بين القاعدة والغرب، أكثر من مرة تحدث بن لادن ولو بشكل موارب عن مفهومه للعدالة، وبعد قتله قال أوباما وكذلك جورج دبليو بوش إن العدالة تحققت، الأرجح أنه لابد من عمل كثير كي تتحقق فعلا، فقد يكون بن لادن طرح قضية صحيحة إلا أنه ما لبث أن أضاعها بالأسلوب الذي نهجه في سبيلها، إذ ذهب به إلى حد تشويه الدين الإسلامي وجعل العرب والمسلمين في العالم إرهابيين. وحدها الأصوات العاقلة وهي قليلة نبهت في غمرة الحدث إلى أن المهمة الصحيحة منذ الآن على الأقل تكون بتصحيح السياسات الغربية تجاه العرب. ولابد أن يكون في رأس الأولويات تحقيق سلام عادل في الشرق الأوسط بدل الانزلاق في التطرف الإسرائيلي وتهربه المستمر من موجبات السلام ومتطلباته، ومنذ أسابيع قليلة باتت هناك أولوية أخرى هي دعم التغيير حيثما نهضت الشعوب العربية للمطالبة به تحقيقا لطموحات الحرية والكرامة والعدالة فمثل هذا التغيير كفيل بأن ينهي "القاعدة" فعلا ويضمن عدم توالدها هنا وهناك، بسبب استمرار السياسات الغربية ذاتها.