15 سبتمبر 2025

تسجيل

ليبيا والنموذج المطروح

09 أبريل 2016

دول الشرق الأوسط في أغلبها نشأت بإرادة خارجية مستعمرة حرّكها الحرص على تفتيت السلطنة العثمانية لإنهاء تهديدها المزمن للهوية والجغرافية الأوروبيتين. لم تنشأ دولنا الحديثة نتيجة مخاض داخلي بين مكونات وطبقات المجتمع انتهى بالتوافق على إنهاء الصراع وتأسيس عقد اجتماعي لبناء الدولة الوطنية كما هو الحال في دول أوروبا الحديثة. بقيت الولاءات داخل العالم العربي ما دون وطنية أو ولاءات قبلية يعرّفها ابن خلدون بـ"العصبية". المُستعمِر الذي قرّر تمزيق هذه الرقعة الجغرافية حرص على تفجير وتعزيز وتظهير التناقضات الداخلية للحيلولة دون عودة أبنائها للوحدة من جديد. واستخدم أساليب وأدوات مختلفة لتحقيق غرضه، فالحدود، على سبيل المثال، رُسمت بطريقة اعتباطية انطوت على قدر كبير من الاستنسابية، أملًا في خلق صراع مستقبلي بين الدول الوليدة على ترسيم حدودها التي كانت تُقسّم القبلية الواحدة فيها إلى شطرين. السلطة التي جاءت لتحكم الدولة الوليدة لم تأت بإرادة داخلية بل فرضها الوصي الخارجي، لذلك بقيت السلطة التي توارثتها نظم حكم مختلفة مشكوكا في شرعيتها. وبما أن دولنا العربية كانت ضعيفة أمام تغول الوصي الخارجي، ظلّت شرعيتها موضوع شك واهتزاز دائمين. لما جاءت الثورات العربية، تفجرت التناقضات الني كانت كامنة ومضبوطة داخل المجتمعات العربية بفعل قمع النُظم واستبدادها مع العلم أن الثورات بريئة تمامًا من خلق التناقضات التي انفجرت بقوة وأن كانت تتحمل مسؤولية تحريرها من قيد الجلاد. فانطلقت التناقضات من عقالها مسعورة في كل اتجاه لا تلوي فيه على شيء. كانت الحالة الليبية نموذجًا صارخًا للهزال التاريخي الذي أصاب مجتمعنا العربي وشوّه بنيته وقولبه في إطار من الاهتزاز وعدم القدرة على الاستقرار. والحالة الليبية تكشف لنا حجم المأزق، وإن كانت بصورة مضخمة. القذافي الذي حكمها لعقود ثلاث، اعتمد القوة والوشاية والحيلة في بناء حكمه. وكانت الرشوة في توزيع عائدات النفط على بعض المتنفذين قبليا وسياسيًا أساسًا في التعامل والتعاطي مع من قد يشكل تهديدًا محتملًا للسلطة. أحجم القذافي عن إنشاء مؤسسات تتسم بالديمومة التي تتطلب استقرارًا نسبيًا تحت أي ظرف داخلي أو خارجي. فكان يقيم مؤسسة ثم يدمرها ثم ينشئ أخرى وهكذا دواليك، ما عدا مؤسستين فقط، شذّتا عن سنّة القذافي في إدارة البلاد: هما "المؤسسة الوطنية للنفط" و "المصرف المركزي". لم تنجُ المؤسستان من مخطط القذافي إلا لأن طابعهما خارجي أكثر منه داخليا. فالأولى مرتبطة بالمنظمات الدولية الضابطة لاستخراج النفط وتحديد أسعاره وحجم توزيعه في الأسواق العالمية مثل منظمة "أوبك" وغيرها. وكانت" المؤسسة الوطنية للنفط" تدرّ أموالًا خيالية إلى حسابات القذافي في البنوك العالمية المعروف منها والمُشفر. والثانية أي مؤسسة "المصرف المركزي" فهي من المؤسسات التي تتطلب استقرارا مبالغًا فيه حتى تقدر أن تؤدي وظيفتها، ولهذا كان "المصرف المركزي" أحوج ما يكون إلى اعتماد سيادة نقدية ثابتة مرتبطة بسوق النقد العالمي. لم تكن المؤسسات مستقلة عن سيادة القذافي الذي لم يفرق – عن وعي طبعًا - بين الدولة والسلطة. وكانت الفوضى والارتجال والتغلب والبحث عن الغنيمة الناظم الحقيقي لطبيعة إدارة الدولة التي انتهجها القذافي خلال حكمه المديد. ولهذا لما رحل وتفككت شبكة المؤسسات التي كانت قائمة في عهده برز الصراع بشكل فج في سلوكيات النخب السياسية التي أتت لإدارة البلاد بعد إسدال الستار على حقبة القذافي. فكانت فكرة "التسوية السياسية" أو "الشراكة السياسية" غريبة عن أذهان النخب التي تربت على ثقافة القذافي وفي عهده. وما شغلها هي فكرة "الغلبة" وكيفية تحقيقها للحصول على عائدات النفط التي كانت تقدر قبل انهيار أسعار النفط بـ70 مليار دولار سنويا. ولم يكن التدخل الخارجي مساعدًا لليبيين لتجاوز أزمتهم وحثّهم على منطق الفصل بين الدولة والسلطة، وأن الشراكة السياسية التي تُعلي من الشأن الوطني العام والخير العام المشترك أساس في بناء الدولة. ولعل الدرس الأكثر إفادة في المشهد الليبي هو أن الدولة لا تبنى من الخارج كما حرصت الأمم المتحدة وإنمّا من الداخل وبإرادة أهلها الذين يتفقون على عقد اجتماعي، يحدد هوية الدولة التي ارتضاها الجميع.