17 سبتمبر 2025

تسجيل

مؤشرات خطرة

09 أبريل 2014

على مدار الأيام الماضية حدثت اشتباكات دامية في مدينة أسوان المصرية راح ضحيتها 24 شخصا على الأقل، فضلاً عن عشرات المصابين، ورغم كثرة الحوادث التي يشهدها الوطن هذه الأيام، ورغم غزارة الدماء التي تسيل فيها، تظل حادثة أسوان حادثة غير عادية، ففي خضم ما يسميه النظام بالحرب على الإرهاب، وفي ظل حالة التسطيح الإعلامي التي تنسب كل مظاهر العنف لمؤيدي الشرعية ورافضي الحكم العسكري، وفي ضوء التخمينات المتعسفة التي جعلت من نشوب العنف في أعقاب 3 يوليو دليلا دامغا على أن من يقومون به هم من أنصار الرئيس المعزول انتقاما وثأرا للإطاحة به من منصبه، في ضوء كل هذا يشتعل العنف القبلي بين مواطنين غير مسيسين، على نحو شديد الخطورة وبالغ السخونة، ليؤكد أن حالة الانفلات الأمني التي يعاني منها المجتمع المصري لا ترتبط بجماعة سياسية معينة، بقدر ما ترتبط بتآكل قدرة النظام الحاكم على القيام بوظائفه الطبيعية، وتآكل ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة التي تعمل في ظله.صحيح أن أجهزة الدولة قد سجلت حضورا رسميا في هذه الأزمة من خلال الزيارة التي قام بها كل من "رئيس الوزراء" و "وزير الداخلية" لموقع المذبحة، إلا أن هذا لم يغير من الوضع شيء فسرعان ما اندلعت المواجهات في اليوم التالي للزيارة، ما يوحي بأن تأثير الزيارة كان هو والعدم سواء، فقد اتهم الأهالي أجهزة الدولة بالتقصير الأمني، ورفضوا مجرد حضور مندوب عنها لتقديم واجب العزاء في الضحايا الذين سقطوا، معتبرين أن النظام إن لم يكن متورطا فيما جرى، فهو على الأقل متقاعس عن القيام بواجباته وعلى رأسها حفظ الأمن. الأزمة التي تكشف عنها هذه الأحداث لا تتعلق فقط بنتيجتها المباشرة، سقوط هذا العدد المؤسف من القتلى والجرحى، ولكنها تتعلق بالكشف عن عدد من المؤشرات الخطرة التي تهدد مستقبل الدولة المصرية قبل أن تهدد نظام الانقلاب. أول هذه المؤشرات هو ضعف ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وتراجع خضوعهم لها، فالحاصل أن شرعية هذه المؤسسات قد أصبحت محل نظر من قبل قطاعات واسعة من المصريين الذين قرروا أن يقوموا بأنفسهم بمهام كان من المفترض، في الماضي القريب، أنها محجوزة لهذه المؤسسات لكي تقوم بها، وعلى رأسها حل المنازعات بين المواطنين. الأمر المؤكد أن هذا التراجع في الشرعية ليس بعيدا عن حالة التناحر السياسي التي تعيشها البلاد، فلو كانت هذه مؤسسات قد احتفظت بحيدتها واستقلاليتها في ظل الصراع السياسي الحالي لما تجاهلتها أطراف النزاع على هذا النحو ليقيموا العدالة بأيديهم، فتجاوز مؤسسات الدولة بهذه الطريقة يوحي بان مهنيتها وحيدتها قد أصبحتا محل شك، خاصة بعد أن تلونت بلون طرف واحد من أطراف الصراع، وظهر جليا أنها لا تتمتع إزاءه بالاستقلالية اللازمة. الأمر الذي ربما يكون قد أغرى الناس بالبحث عن طرق أخرى لحسم خلافاتهم، وعاد بهم إلى ممارسات ما قبل الدولة، حيث النزاعات يتم حسمها بقانون القوة وليس بقوة القانون. من المؤشرات الخطرة أيضا أن يلجأ المواطنون النوبيون المعروفون بسلميتهم للقوة المسلحة لحسم نزاعاتهم. لتتحول بذلك أسوان المسالمة إلى بؤرة ملتهبة جديدة تنضاف إلى شبه جزيرة سيناء التي لم تعد تعرف الاستقرار. وترجع المسؤولية عن هذا التوسع الواضح في استخدام السلاح إلى النظام الحالي نفسه الذي أعطى القدوة للأفراد في استخدام العنف المفرط، بعد أن استخدم العنف غير المسبوق في تعامله مع المعارضين له، الأمر الذي ينذر بتحول الكثير من الخلافات المحدودة إلى نمط الصراعات الواسعة إن استمر الأمر على هذه الوتيرة.من ناحية أخيرة كشفت أحداث أسوان أن نظام الثالث من يوليو يقيّم الحفاظ على مكاسبه السياسية بأكثر ما يقيم به الحفاظ على السلم الاجتماعي، ففي الوقت الذي أسرف فيه هذا النظام في ممارسة العنف في مواجهة الفصيل المختلف معه سياسيا — من الإخوان ورافضي الحكم العسكري، إذا به يمتنع عن ممارسة العنف أو حتى التهديد باستخدامه ضد أي من الفصائل المؤيدة له والتي تمارس العدالة العشوائية وتنتهك القانون، وذلك حتى لا يخل بالتوازن السياسي الذي أقامه في أعقاب الانقلاب. ومن هنا كان تدخله المتردد والعاجز خلال الأزمة الأخيرة، حيث ظهرت مؤسسات النظام الأمنية بلا أنياب حقيقية، وبدا كما لو أنها قد قبلت واقع ممارسة المدنيين للعنف الذي يفترض أنها تحتكره، فخرج المشهد بهذه العبثية، حيث الأفراد يتقاتلون وتتكدس جثثهم في الشوارع، فيما أجهزة الدولة خارج المشهد تماما.أما المؤشر الأخطر على الإطلاق فهو احتمال أن تتقاطع الخلافات القبلية السابقة مع الخلافات السياسية، فلو حدث هذا الاحتمال فهنا ستخرج الأمور عن السيطرة تماما، وستصبح مهمة مؤسسات الدولة أعقد وعواقب انحيازها لطرف دون آخر أخطر، خاصة أن تدخلها في هذه الحالة يفتح الباب أمام حرب أهلية مصغرة، لا أمل في تجاوزها من دون خسارة بشرية هائلة.