23 سبتمبر 2025
تسجيلتأخر رئيس الوزراء الإسرائيلي في إبداء موافقته على تسلم رسالة أعدتها السلطة الفلسطينية لشرح تصورها لمسار التفاوض والأهداف التي ينبغي أن يحققها ليكون هناك "سلام" بين الطرفين. وعنى هذا التريث أن بنيامين نتنياهو أُبلغ مسبقاً الخلاصة التي توصلت إليها السلطة، وقيل إنها صيغت بلهجة تحذير بأنها ستقدم على حلّ نفسها بسبب جمود المفاوضات والممارسات الإسرائيلية التي أدت إلى تعجيز هذه السلطة عن القيام بمهماتها، وكذلك إلى إقصاء هدفي السلام وإقامة الدولة الفلسطينية. بالنسبة إلى الشكل، ليس معلوما جيدا لماذا قررت السلطة اللجوء إلى هذا الأسلوب – أي كتابة رسالة – لكن يبدو أن الفكرة ولدت غداة انتهاء اللقاءات الاستكشافية التي عقدت أوائل السنة في عمان بحضور ممثلين عن "الرباعية" الدولية. كان الأردن توسط لعقد تلك اللقاءات، بتشجيع من الإدارة الأمريكية التي أرادت حينئذ حمل الفلسطينيين على وقف تحركهم الدبلوماسي لنيل عضوية لدولتهم في الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، وقد انزعجت واشنطن من هذا التحرك الذي أشعرنا بأنها وحدها التي تشارك إسرائيل عزلتها الدولية، فردت عليه بضغوط على الاتحاد الأوروبي لوقف مساعداته مما أنتج الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها السلطة الفلسطينية حالياً. كما هو معلوم، لم تنجح لقاءات عمان في تحريك أي من الموقفين، الفلسطيني أو الإسرائيلي، وفي مثل هذه الحال يفترض أن تلعب الولايات المتحدة نفسها أو "الرباعية" دوراً في تذليل العقبات إلا أنهما لم تفعلا. فـ"الرباعية" مشلولة بسبب شلل السياسة الأمريكية، وهذه تعطلت بسبب التعنت الإسرائيلي قبل أن تدخل في غيبوبة السنة الانتخابية، وفي الأعوام الأخيرة تبين عملياً أن الولايات المتحدة و"الرباعية" تبدوان "ناشطين"، فقط عندما تقرر السلطة الفلسطينية أن تتنازل عن شروطها، لكنهما لم تفلحا يوماً في إقناع أي حكومة إسرائيلية بتغيير أي تفصيل ولو شكلي في مواقفها. وهكذا فعندما أبلغ الجانب مسبقاً وعلناً، وبوضوح كامل، ألا تفاوض في ظل النشاط الاستيطاني، لم تعد لدى الأمريكيين ولا "الرباعيين" أوراق يلعبونها. وكأنهم وجدوا أصلاً للضغط على الفلسطينيين ليقبلوا بما يطرحه الإسرائيليون، وعدا ذلك فلا دور لهم. والأهم من ذلك، انكشف الدور الدولي بأنه لا يستند إلى أي مرجعية، أو حتى إلى مجرد اعتبارات – قانونية، إذ إن الاعتراض الفلسطيني على الاستيطان ينطلق من أنه مخالف للقانون الدولي، فكيف يمكن التفاوض للوصول إلى "اتفاق سلام" لابد أن يصبح بمثابة وثيقة قانونية من دون أن تتوقف سرقة الأرض، أي من دون أن تتوقف المخالفة للقانون خلال التفاوض، صحيح أن الأمريكيين، وكذلك "الرباعية" أبدوا مواقف تبدو في ظاهرها تزكية للموقف الفلسطيني، إلا أنهم لم يتجاوزوا الرأي اللفظي لترجمته بتحرك سياسي لدى الطرف الإسرائيلي الذي يسرق الأرض ويخالف القانون، بل أنهم يحاولون تكراراً مساعدة هذا الطرف من خلال الضغط على الفلسطينيين ليقبلوا سرقة أرضهم ويسرعوا في التنازلات آملاً في أن يضعوا نهاية لهذه السرقة. يعرف الأمريكيون و"الرباعيون" أن لديهم في إسرائيل حكومة متطرفة. يعرفون أيضاً أن حكومات إسرائيل يمكن أن تتغير لتكتسب مزيداً من التطرف، استناداً إلى كونها منتخبة، لكنهم لا يلومونها ولا يحاسبونها، ولا يفكرون في اتخاذ أي إجراءات أو عقوبات ضدها إذا غيّرت مواقفها جذريا لتشديد شروطها في المفاوضات، وهي تفعل ذلك مستفيدة من ضعف الجانب الفلسطيني وانقساماته، وكذلك من هشاشة الدعم العربي له، لكن هذه القضية الفلسطينية، مهما أمعن الإسرائيليون في محاولات تصفيتها، لا يمكن أن تحل إلا إذا توصلت إلى إنهاء الاحتلال وتحصيل الفلسطينيين جداً معقولاً من حقوقهم، وإلا فإنها ستبقى ملفاً مفتوحاً لا يستقيم معه أي استقرار ثابت في المنطقة. تعود "الرباعية" إلى الاجتماع بعد غد واشنطن، ربما لتقول فقط إنها لا تزال موجودة، إذ ليس لديها أي معطى جديد لمحاولة إحياء المفاوضات، وحتى لو أصدرت بياناً فليس لديها ما تبلغه إلى الطرفين، فطالما أن مبعوثها توني بلير لم ينجح، رغم كل أحاييله، في حلحلة جدار العناد الإسرائيلي، ولا في اختراق الموقف الفلسطيني، فإنها ستكتفي بإعلان استمرار الجمود. والمثير للاستغراب حقاً، أن أي مسيرة تفاوضية تبلغ هذا الحد من العقم توجب على أطرافها والوسطاء إعادة النظر في المنهج، وإلا في معنى السعي إلى "حل سياسي" إذا كان أحد طرفي النزاع مجبر مسبقاً على قبول أي حل يفرضه ميزان القوى العسكري، فلو صح مثل هذا المعيار لما أمكن إنهاء الاستعمار في أي منطقة ولا في أي بلد، والاحتلال الإسرائيلي هو حال استعمارية بات معروفاً أنها الأخيرة التي لم تجر تصفيتها بعد. عودة إلى "الرسالة الفلسطينية" فهي تعرض مسار التفاوض والعقد التي أوقعته في الجمود، أولاً لتبين أن تجاهل القانون الدولي كمرجعية بات يحول دون إنجاز أي اتفاق، وثانياً لتحدد العناصر اللازمة والضرورية لأي تسوية قابلة للاستمرار، وأخيراً لنقول للإسرائيليين، كما للأمريكيين و"الرباعيين"، أنهم مدعوون جميعاً لمراجعة هذه المفاوضات منهجا وآليات ومرجعيات، هذه المراجعة كانت ولا تزال مطلوبة، بل لعلها صارت ملحة منذ اغتيال إسحق رابين عام 1995م، أي بعد عامين على توقيت اتفاقات أوسلو، وزادت إلحاحاً منذ عام 2000 بعد فشل محادثات كامب ديفيد واندلاع الانتفاضة، لكن ما حدث طوال الـ12 عاما الماضية أن حكومات آرييل شارون وإيهود أولمرت ونتنياهو اتبعت إستراتيجية "التفاوض للتفاوض" وأحياناً "اللاتفاوض" إلا إذا تمكنت من انتزاع أراض فلسطينية جديدة، وهذا ما تفعله الحكومة الحالية. أن تقول السلطة الفلسطينية لنتنياهو إن سياسة حكومته، والحكومات السابقة، قد جعلتها عاجزة فهذا سيؤكد للإسرائيليين أن سياستهم "صحيحة" ولن يحملهم على تحمل مسؤولياتهم بحكم أن هذه السلطة من منتجات اتفاقات أوسلو. والأكيد أنهم لن يوافقوا على أي مراجعة لمنهج التفاوض، إذ لا يشعرون بأنهم مضطرون إليها كما يشعر الفلسطينيون، أما الولايات المتحدة و"الرباعية" فمن شأنهما أن يجريا هذه المراجعة، لأن مواصلة التهرب منها لا تعني سوى أنهم غير معنيين بأي سلام في الشرق الأوسط.