12 نوفمبر 2025

تسجيل

نحو فهم عقلاني لمادة التاريخ

09 مارس 2022

مما لا شك فيه أن التاريخ يشكّل جزءاً أساسياً من ثقافة أية أمة حريصة على بناء حاضرها ومستقبلها، فالتاريخ هو من أقدم العلوم؛ إن لم يكن أبا العلوم جميعها كما يحلو لبعض المؤرخين وصفه. ويمكن لهذا العلم أن يتخذ شكل قصة متدحرجة مليئة بالشخصيات العظيمة وحكايات الهزيمة والانتصار، يضيف كل جيل فصوله الخاصة إلى التاريخ أثناء إعادة تفسيره وإيجاد أشياء جديدة في تلك الفصول المكتوبة بالفعل، كما يمنحنا إحساساً بالهوية من خلال فهم من نحن، ومن أين جئنا، ويوفر شعوراً بالسياق في حياتنا ووجودنا، يساعدنا التاريخ على فهم الطريقة التي تسير بها الأشياء، وكيف يمكننا التعامل مع المستقبل. لفترة من الزمن، كنت على قناعة بأنّ تدريس التاريخ ما زال على فلسفته القديمة يُدّرس بأساليبه وأدواته التقليدية، وأنا الشاهد على مواد/ مساقات التاريخ التي درستها على مدار ثلاث عشريات من السنين، وقد حفظت عن ظهر قلب تلك الأحداث التي تم حشوها بين صفحات الكُتب بما في ذلك سرد صعود الأمم وسقوطها. ولطالما تساءلت فيما إذا كان الهدف من مساقات التاريخ التي درسناها هو تقديم الحقائق أو البحث عن تفسير الماضي، والغالب أن معظم تلك المساقات كانت جامدة تعتمد على الحفظ أكثر من الفهم والتحليل، لم يطرأ عليها أي تعديل أو تطوير بحثي ولم تأخذ حظها من العناية والاهتمام اللازمين. اليوم، وبعد أن وقع بين يدي مساق التاريخ العام: التحولات الكبرى والاندماج العالمي (وهو جزء من سلسلة كتب قيّمة ومميزة تصدرها مؤسسة ترشيد في دولة قطر)، رأيت أن ثمة جهداً كبيراً بذله أساتذة وباحثون في التاريخ من بلدان عربية في هذا المنهاج التعليمي القائم على أساليب وإستراتيجيات تعليم حديثة ترتكز على البحث والتقصي والتفكير الناقد بعيداً عن الحفظ والتلقين الذي عانت منه أجيال عديدة؛ وبما يهدف في النهاية إلى بلورة الهوية وتعزيز الانتماء وفهم التاريخ بشكل معمق وناقد، بمعنى أن هذا المنهاج هو بمثابة منجز بحثي يعيد إنتاج التاريخ بصورة أكثر نضجاً من القالب التقليدي القديم الذي تعودنا عليه. نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لمناهج دراسية على شاكلة سلسلة كتب التاريخ العام الصادرة عن (ترشيد) تعزز أهمية الوعي بهذا المساق لفهم أعمق لتاريخ المجتمعات والثقافات الأخرى، ضمن رؤية إنسانوية شاملة وبطريقة منظّمة تميّز بين أنماط عامة دون الإغراق في التفاصيل، ثمّ الحصول على المعرفة بمستوى عالٍ منافس، وما أحوج مناهجنا لتحويل الصفحات التي تستعرض الأحداث التاريخية والقائمة على الحفظ والبصم والتلقين إلى "ثقافة" تساعد الطالب في بناء المعرفة لدى الأجيال. والأهم من ذلك ربط الأحداث الراهنة بالماضي وخلق روح التحليل والنقد والنقاش لدى الطالب حتى لا يكون التدريس بشكل جامد.. بمعنى إيجاد مادة تاريخية تتصف بالموضوعية تستند إلى النقاش والنقد والتحليل المعمق وتبتعد عن المثاليات والسردية والتلقين، وثمة بارقة أمل في منهاج التاريخ سابق الذكر، إذ أحسب أننا أمام عمل متقن لا تلقين فيه، يقوم على إكساب الطلبة المهارات النقدية والتاريخية بأسلوب ممتع وبإطار موضوعي لفهم الحالة الإنسانية والتفاعل المعقد بين الاستمرارية والتغيير والتعبير عنها شفهياً وكتابياً؛ مما سيتيح للطلاب فرصة للتعمق في الموضوعات والمفاهيم التاريخية التي تكشف عن شيء جديد عن الماضي. • باحث دكتوراه