11 سبتمبر 2025

تسجيل

الإثارة والالتزام في الصحافة الغربية

09 مارس 2013

في منتصف القرن الماضي تجاوزت الصحافة الأمريكية حدودها مما أدى بالساهرين على تطبيق التعديل الأول الأمريكي لإنشاء لجنة "هوتشينس" التي نظرت في التجاوزات والممارسات التي خرجت عن العرف والتقاليد العامة لأخلاقيات الصحافة، وكنتيجة لتقريرها ودراستها جاءت بمفهوم جديد وهو المسؤولية الاجتماعية للصحافة وكان هذا سنة 1947، وبعد خمسين سنة بالضبط وجدت الصحافة البريطانية نفسها أمام أزمة أخلاقية حادة أدت إلى نقاش جاد وصريح بين محترفي المهنة وبين النقاد والمشرفين على الصحف والمجلات وكذلك المختصين في شؤون قانون الصحافة وأخلاقياتها. والأمر هذه المرة كان خطيرا حيث إنه مسّ الأميرة ديانا والعائلة المالكة. وآخر ضجة عرفها المجتمع البريطاني هو ظهور كتاب "الملكيون" للكاتبة كيتي كيلي حيث جاء ليكمل ما تركته صحافة الإثارة وليكشف للعام والخاص عورة العائلة المالكة بكاملها والأميرة ديانا على وجه الخصوص. تتميز الصحافة الغربية خاصة الصحافة الجادة بالتنقيب والاستقصاء والتحري وهذا ما يسمى في الغرب بصحافة التحريات أو صحافة الاستقصاء investigative journalism بهدف تلبية حاجات المجتمع المعرفية وكذلك لمراقبة رجال السياسة وأصحاب السلطة والنفوذ والجاه والمال من التجاوزات واستغلال مناصبهم ونفوذهم لتحقيق أهدافهم الخاصة. من حيث المبدأ تظهر الأهداف نبيلة وشريفة، حيث استطاعت الصحافة الغربية أن توظف هذه الأهداف النبيلة في أرض الواقع. والأمثلة كثيرة على ذلك مثل استقالة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وانسحاب "غاري هارت" من الانتخابات الأمريكية وهذا بعد ما فضحته وسائل الإعلام أمام الرأي العام الأمريكي بعدما قضى عطلة نهاية الأسبوع مع عشيقته "دونا رايس"، والأمثلة كثيرة ومتشعبة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ماذا يحدث إذا تلاعبنا بهذه المبادئ وهذه الحرية لتحقيق أهداف ليست هي بالضرورة أهداف الغالبية العظمى من المجتمع وليست هي الأهداف النبيلة للصحافة والإعلام. فالإشكال المطروح هنا هو أن الصحافة الصفراء وصحافة الإثارة استغلت مركزها في المجتمع ونفوذها لتحقيق أهدافها بالدرجة الأولى وهذه الأهداف تتمثل في المبيعات وبذلك الإعلانات وبذلك الربح. فتدخل صحافة الإثارة والتابلويد في خصوصية المشاهير ورجال السياسة والأعمال أثار ضجة كبيرة في الأوساط الإعلامية والسياسية البريطانية بصفة خاصة، والغربية بصفة عامة. وجاء رد الفعل عنيفا حيث إن الجهات المختصة في المملكة المتحدة اتخذت إجراءات صارمة لتنظيم وتقنين العملية الإعلامية من دون المساس بطبيعة الحال بحرية الصحافة وبحرية الرأي والنقد. ففي مؤتمر صحفي أعلن اللورد "جون وايكهام" رئيس اللجنة الصحفية البريطانية للشكاوي ورئيس لجنة مراقبة الصحافة عن الإجراءات الجديدة التي أخذتها اللجنة لتضع حدا لتجاوزات الصحافة وتكرار مأساة ديانا. وشملت هذه الإجراءات حماية الحياة الخاصة للعائلة المالكة وللمشاهير ورجال الأعمال والسياسة،والأطفال وضرورة القضاء على سوق صور البابراتزي التي تلتقط بطرق لا تمت بأية صلة لأخلاقيات الصحافة والممارسة الإعلامية الشريفة والنزيهة والملتزمة. وهكذا جاءت مأساة ديانا وبعد فوات الأوان بنتائج تحمي أولادها وتحمي غيرها من الاستغلال البشع لصور تباع بمئات الآلاف من الدولارات، بل في بعض الأحيان بالملايين. وهكذا جاءت لجنة مراقبة الصحافة مثلها مثل لجنة "الهوشتينس" في الولايات المتحدة سنة 1947 بقانون جديد للممارسة والسلوك الإعلامي. وكان رد فعل الناشرين وأصحاب الجرائد وكبار المحررين البريطانيين جد إيجابي حيث رحب الجميع باقتراح اللورد "وايكهام". لكن كيف سيكون التطبيق في أرض الواقع خاصة أن الصحافة الصفراء تقوم أساسا على أخبار المشاهير وخصوصيتهم وأخبار الإثارة والجريمة والعنف والجنس. يرى الخبراء والمختصون في شؤون قانون الإعلام وحرية الصحافة، أنه ليس بالأمر السهل تحديد أين ينتهي حق الفرد في الخصوصية وأين تبدأ حرية الصحافة.ففي بعض الأحيان يأخذ الأمر وقتا طويلا ودراسة ومناقشة مستفيضتين لتحديد هل يجب علينا كصحفيين أن نكتب خبرا حول أمر معين أم لا؟ وفي هذه الحالة قد يضّيع الصحفي فرصة تغطية خبر يكون ذا أهمية للمجتمع ولحق الفرد في المعرفة. والإشكال الرئيسي الذي يواجه المهنة هو أن هذا القانون الذي وضعه المسؤولون في بريطانيا تقل أهميته ووزنه إذا لم تعمل به دول أخرى عبر العالم. فصور البابراتزي لها سوق عالمي وتباع في أهم عواصم العالم فإذا منعت في لندن وبيعت في روما فأين هي الجدوى منه، وأين هي الفائدة كذلك إذا لم يشمل هذا القانون الإنترنت والإعلام الإلكتروني بجوانبه المتعددة والمتشعبة - البث الفضائي-التلفزيون الكابلي والمشفر...الخ. فبين حق الجمهور في المعرفة وحق الفرد كذلك في خصوصيته يوجد تناقض كبير من الناحية العملية. ومنهم من يرى أن أية قوانين أو إجراءات تنظيمية لممارسة المهنة الصحفية ستحد من حرية الصحافة وسيستغل أصحاب النفوذ والجاه والمال مثل هذه الإجراءات للتهرب من التحقيقات والاستقصاءات حتى لا تكشف الصحافة عن أعمالهم التي قد تناقض القانون والأخلاق والصالح العام. السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الإشكالية: إشكالية الالتزام والإثارة هو ما هي الخدمة التي تقدمها الصحافة عندما تغطي خصوصية الآخرين، وخاصة إذا كانت الأمور تتعلق بالروتين والحياة العادية للنجم السينمائي أو للسياسي أو لرجل الأعمال. فإذا كانت التغطية لا تكشف عن عملية رشوة أو تجسس أو استغلال نفوذ، أي بمعنى آخر التصرفات التي تضر بالصالح العام، وإنما هي تغطية تافهة تستغل من قبل صحافة الإثارة لزيادة المبيعات وزيادة القراء والمشتركين وبذلك زيادة حجم وسعر الإعلانات، ففي هذه الحالة نلاحظ أن الصحافة ابتعدت -بمختلف المقاييس- عن مهمتها النبيلة في المجتمع. ومن هذا المنطلق يجب على مواثيق الأخلاق ولجان الصحافة عبر العالم أن تقنن وتنظم تعامل الصحافة مع الحياة الخصوصية للناس وهذا من دون المساس بحرية الصحافة في الكشف عن الحقيقة والدفاع من خلال عملها على الصالح العام. فقياس الغرض وتحديده في هذه الحالة يحدد الغائية والهدف والقصد والنية من وراء تغطية خصوصية الناس، هل الأمر يتعلق بخدمة الصالح العام وخدمة الجمهور أم البحث عن الإثارة لزيادة المبيعات والأرباح. والسؤال الذي يطرح نفسه حول إشكالية أخلاقيات الصحافة الغربية هو إلى أي مدى ستتخلص صحافة الإثارة من ممارساتها وتصرفاتها غير الأخلاقية وتنضم إلى صفوف الصحافة الجادة والصحافة المسؤولة والملتزمة بالبحث عن الحقيقة لخدمة الرأي العام والجمهور. الأمر ليس بالسهل خاصة أنه يتعلق بتغيير نمط وشكل ونوع المادة الخبرية التي تقدم إلى مستهلك عوّدته نفس هذه الصحافة على أنماط وعادات استهلاكية إعلامية تمجد الإثارة والجنس والفضائح والتشهير. هل ستتغلب الأخلاق والقيم على المادة وعلى الربح؟ سؤال يرجح الجانب المادي من دون شك رغم إيجاد قوانين ومواثيق لأخلاقيات الممارسة الصحفية.والأهم في كل ما تقدم أن الصحافة الغربية مثل كل أنواع الممارسات الإعلامية في العالم تعكس المجتمع الذي تعيش فيه بمختلف أبعاده القيمية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. مجتمع في آخر المطاف يتميز بالمادية والسلوك الاستهلاكي بامتياز ويمثل المجال الحيوي الذي تعيش وتتنفس من خلاله هذه الصحافة. فالأزمة إذن هي أزمة مجتمع بكامله يصارع ليل نهار للحفاظ على قيمه ومثله التي تتدهور يوما بعد يوم.و هنا يجب الرجوع إلى الجذور وإلى أصل الأزمة وتشخيص الداء لتوصيف الدواء. وما تحتاجه الصحافة الغربية من مواثيق أخلاقية وقوانين ممارسة قد تحتاجه معظم القطاعات المختلفة والعاملة في المجتمع الغربي.