12 سبتمبر 2025

تسجيل

الإعلام المارق في زمن الكذب المنظم

09 فبراير 2019

هناك من ينظر ويبرر للفساد والظلم والاستبداد والتلاعب بثروات وأموال الشعب، وهناك من يجعل من الكذب والتضليل والتشويه وسيلة لتبرئة المستبدين والطغاة والديكتاتوريين. في هذه الأيام نلاحظ ونشاهد أشياء تقوم أساسا على مبدأ "إن لم تستح فافعل ما شئت". فساد الإعلام يعني فساد المجتمع، فالإعلام هو منبر الحقيقة ومنبر الآراء والأفكار والوسيلة التي تطرح قضايا ومشاكل الأمة بكل شفافية وجرأة من أجل استقصاء الواقع وتصحيح الأخطاء والتجاوزات لمصلحة المجتمع بأسره. ففساد الإعلام يعني شلل أو فساد قطاع استراتيجي في المجتمع، قطاع هو ركيزة الديمقراطية والحكم الراشد. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، لماذا فساد النظام الإعلامي في الوطن العربي؟ وما هي أسباب عدم فاعليته ومصداقيته؟ لماذا ثقافة التنظير للسلطة وثقافة التملق وثقافة التبرير و"كل شيء على أحسن ما يرام" بدلا من الاستقصاء والنقد والكشف عن الحقائق والمساهمة في إرساء ثقافة الرأي والرأي الآخر والسوق الحرة للأفكار. هناك من يرى كذلك أن إذا فسد المجتمع فسد الإعلام. فالعلاقة بين الإعلام والمجتمع علاقة جدلية وعلاقة تأثير وتأثر. فالإعلام القوي بحاجة إلى مجتمع مدني قوي وإلى الفصل بين السلطات وإلى قضاء مستقل وديمقراطية. من جهة أخرى يجب على المنظومة الإعلامية في المجتمع أن تناضل من أجل كسب المزيد من الحرية والاستقلالية والحرفية والمهنية وبذلك المصداقية واحترام الجميع. فالحرية تؤخذ ولا تعطى والإعلام هو نضال يومي مستمر من أجل الكشف عن الحقيقة وإرساء الديمقراطية، فلا ديمقراطية بدون إعلام حر ومستقل وفعال. الإشكال المطروح هو أن الجميع يلوم وينتقد الإعلام العربي وكأن القطاعات الأخرى في المجتمع العربي بألف خير وعلى أحسن ما يرام. الحقيقة هي العكس تماما حيث إن معظم القطاعات في المجتمع العربي تعاني من مشاكل وتناقضات عدة. فالإعلام ما هو إلا نظام فرعي من النظام وبذلك فهو جزء لا يتجزأ من هذا النظام. فالدول العربية بحاجة إلى إصلاح النظام وإلى تحرير الفرد في المجتمع وإلى توفير مستلزمات وشروط السوق الحرة للأفكار والمجتمع المدني والمؤسسات المستقلة الديمقراطية التي تؤمن بالحرية وبالشفافية وبالنقد والنقد الذاتي. أسباب عقم الإعلام العربي متعددة ومختلفة فمنها ما يتعلق بالمحيط التي تعمل فيه، ومنها ما يتعلق بالحرفية والمهنية ومنها ما يتعلق بالمصداقية ومنها كذلك ما يتعلق بالعلاقة مع السلطة والعلاقة مع الممول والإعلان ومنها ما يتعلق بالعوامل الخارجية كالتبعية والقيم الدخيلة. فهناك من يطالب هذه الأيام بإلغاء وزارات الإعلام وأن نهاية الإعلام الحكومي أصبحت أمرا يفرض نفسه في عصر العولمة والمجتمع المعلوماتي والرقمي وعصر الانترنت. لكن هل إلغاء وزارات الإعلام سيحل مشاكل الإعلام العربي؟ ويجعل منه إعلاما فعالا وقويا، إعلاما مستقلا قادرا على النقد والاستقصاء وكشف العيوب وإشراك الجماهير في صناعة القرارات وتحديد مصيرها؟ الإعلام العربي مسؤول عن تشكيل الرأي العام وتنشيط السوق الحرة للأفكار وتزويد المجتمع المدني بالأخبار والمعلومات والتقارير والتحليلات وغير ذلك. لكن دعنا نتوقف عن هذه الأسئلة حتى نفهم جيدا لماذا يوجد الإعلام العربي في الحالة التي هو عليها اليوم؟ هل المؤسسة الإعلامية هي أداة سلطة أم أداة المجتمع بأسره وبمختلف الشرائح الاجتماعية التي تشكله؟ هل عملية التواصل بين السلطة والجماهير عملية عمودية أم أفقية؟ هل الممّول هو المحدد الرئيسي لمخرجات وسائل الإعلام؟ هل أدت أو ستؤدي العولمة إلى دمقرطة الإعلام في الوطن العربي؟ هل ستؤدي الثورة التكنولوجية والمعلوماتية إلى التأثير في علاقة السلطة بوسائل الإعلام وفي طرق العمل الإعلامي وآلياته ومنهجيته في الوطن العربي؟ هل تتوفر مستلزمات الصحافة الحرة في الوطن العربي؟ وهل هذه الصحافة قادرة على أن تصبح واحدة من السلطات الفاعلة في المجتمع؟ الملاحظ والمطّلع على مخرجات الإعلام العربي يدرك المشاكل والتناقضات الكبيرة والمتعددة التي يعاني منها هذا الإعلام، فالمؤسسة الإعلامية العربية ما زالت في الكثير من الدول العربية لم ترق إلى المؤسسة الإعلامية بالمعنى الكامل للكلمة سواء من حيث الإدارة أو التسيير أو التنظيم أو الهيكلة أو الوسائل أو الكادر البشري. ففي الكثير من الحالات نلاحظ المساومات والتجاوزات والمتاجرة بالمهنة على حساب مبادئ المهنة وشرفها وأخلاقها، وغالبا ما تُستعمل المؤسسة الإعلامية لأغراض ومصالح ضيقة جدا تكون في صالح فئة معينة أو حزب معين أو تيار معين على حساب الغالبية العظمى من أفراد المجتمع. في هذه الظروف تنعدم الاستراتيجية وتكون السياسة الإعلامية غير واضحة المعالم، هلامية تركز على التعبئة السياسية والتنظير للسلطة والمدح والتسبيح وكذلك الترفيه والتسطيح وإفراغ القضايا من محتواها الحقيقي. تعاني الصحافة العربية من جملة من المعوقات والمشاكل المهنية والتنظيمية والنقابية جعلتها تفشل في تحقيق الكثير من مهامها الاستراتيجية في المجتمع. وبما أن الصحافة العربية في أي مجتمع عربي لا تستطيع أن تكون فوق النظام والأطر التي يسير وفقها المجتمع ككل بحيثياته وعناصره ونظمه فإنها باعتبارها جزءا فرعيا من النظام التي تعمل فيه وتتعاطى معه تتأثر بالمناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد. فالسلطة في العالم العربي ما زالت تنظر للصحافة كأداة لتثبيت شرعيتها ووسيلة لتعبئة الجماهير وتجنيدها. وحتى دور الصحفي في المجتمع يُنظر إليه على أنه مكمل لدور السلطة وأجهزتها المختلفة فهو مطالب بالتغطية والمدح والتسبيح لكنه إذا استقصى وبحث وانتقد فيصبح من المغضوب عليهم. فمعظم قوانين النشر والمطبوعات في العالم العربي جاءت مجحفة ومقصرة في حق المؤسسة الإعلامية وفي حق الصحفي الأمر الذي أفرز ثقافة الرقابة والرقابة الذاتية ومن ثم قتل ثقافة صحافة الاستقصاء والبحث عن الحقيقة وقتل روح المسؤولية والالتزام والنزاهة والموضوعية عند الصحفي. التحدي الأكبر الذي يواجه الدول العربية في مجال الإعلام هو تحريره وتحرير الطاقات والمهارات والإبداعات. التحدي يتمثل في الاستثمار الأمثل في القدرات والطاقات والإمكانيات المادية والبشرية لإرساء قواعد ومستلزمات صناعة إعلامية متطورة رشيدة وفعالة وقوية تستطيع أن تشكل الرأي العام والسوق الحرة للأفكار والمجتمع المدني الذي يؤسس للديمقراطية وللالتزام والشفافية والحوار الصريح والبناء من أجل مصلحة الجميع. كل هذه الأمور تتطلب الدراسة والبحث وإقامة علاقة متينة وتفاعل وتبادل حوار صريح بين السلطة والمؤسسة الإعلامية والقائم بالاتصال والجمهور من أجل إعلام فاعل يؤمن بالمسؤولية والديمقراطية.