11 سبتمبر 2025

تسجيل

التعليم عن بُعد.. أم البُعد عن التعليم

09 يناير 2022

عنوان جدلي، ربما يثير الكثير من التساؤلات المبنية على الاتفاق أحياناً، والاختلاف أحياناً أخرى. فالاختلاف الموضوعي المنطقي البعيد عن الأهواء الشخصية، والتفسيرات عميقة الهوى يثري القضية ولا يفسدها، وهذا هو المغزى في نهاية المطاف. فالتعليم قضية وطنية عامة في كل المجتمعات المتحضرة، وإثراؤها مطلب اجتماعي خالص، ومناقشتها أمر مُلح في كل الظروف العادية والاستثنائية، ومن قِبَل كل شرائح المجتمع وطوائفه وأجناسه من مواطنين ومقيمين سواء بسواء، ودون استثناء، والتساؤل والجدل فيها وحولها وارد ومتاح. ولذا، فما المانع من إثارة مثل هذا السؤال المتجسد في عنوان هذه المقالة؟ وذلك من أجل إثراء القضية التعليمية وما لها وما عليها من شجون وهموم يلمسها ويحس بها كل من يعيش على هذه الأرض من مواطن ومقيم؟ وباعتبارها قضية مجتمعية في المقام الأول، فهي مسؤولية الجميع، من أفراد وجماعات ومؤسسات عامة وخاصة، فالمدرسة من جهتها مسؤولة، والبيت مسؤول، والطالب مسؤول، وكذلك الحال مع المعلم، ومن في حكمه. فكل له دوره المنوط به. فتوفير بيئة تعليمية مواتية تتوافق مع خصائص المتعلم، وتلبي احتياجاته التعليمية تقع على عاتق المعلم، حيث إنه المسؤول الأول عن إعداد هذه البيئة وتهيئة الظروف المحيطة بالمتعلم من أجل حدوث التعلم، وتوفير البنية التحتية لهذه البيئة مسؤولية القيادة التربوية من جهة، والإدارة المدرسية من جهة أخرى. وكذلك الحال مع البيت ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى المعنية بالعملية التعليمية من قريب أو بعيد. وكل هذه المسؤوليات قائمة وملاحظة وملموسة في الظروف العادية في اللقاء المباشر وجها لوجه بين المعلم والمتعلم في التعليم عن قُرب في الصف. أما التعليم عن بُعد، فهو أمر مختلف لأنه لا يلتقي المعلم والمتعلم في مكان واحد في غرفة الصف، بل يلتقيان عبر شاشة كمبيوتر واحدة في مكان المتعلم في البيت حيث يُنقَل إليه الدرس كاملا بكل ملحقاته ومتطلباته ومستلزماته، وهذا الأمر غير عادي في الظروف الطبيعية. والسؤال هنا هل تتغير المسؤوليات التعليمية آنفة الذكر في مثل هذا الظرف؟ بمعنى هل تتغير مسؤولية المعلم والمتعلم والبيت وباقي مسؤوليات مؤسسات المجتمع المعنية بالعملية التعليمية؟ فالإجابة بالطبع «لا»، فالمسؤوليات لا تتغير، بل تتغير الطرق والأساليب، وربما تزداد الجهود وتتضاعف، وتختلف الخبرات، وتكبر التحديات. ونظرا لما آلَ إليه الوضع الحالي من دواعٍ طارئة خاصة فرضته ظروف انتشار فيروس أوميكرون Omicron الجديد المتحور، والكفيلة بتغيير مسار النظام التعليمي بتوفير بيئة يشترط فيها التباعد المكاني بين الطلبة للحد من انتشار الفيروس، فلم يكن أمام المعنيين بالعملية التعليمية والقائمين عليها بوزارة التربية والتعليم والتعليم العالي، إلا العودة الاضطرارية إلى نظام التعليم عن بعد. وهذه حالة استثنائية تتغير فيها المعادلة بأكملها، وتنقلب فيها الأمور، ويختل فيها ميزان التوافق والمواءمة بين مكونات البيئة التعليمية، وخصائص المتعلمين، وشروط حدوث التعلم. ولذا، فقد لا تكون هذه البيئة التعليمية الإلكترونية المُعدة عبر شاشة الكمبيوتر مواتية ومتوافقة مع خصائص المتعلمين المستهدفين. وهذا يعني أنه قد لا تتوفر في شاشة الكمبيوتر كل شروط التعلم. فالشاشة الصغيرة ليست كفيلة بإبعاد كل المشتتات الإدراكية البصرية التي قد تسبب انصرافا ذهنيا للمتعلم، وتبعده عن جو الدرس الإلكتروني على شاشة الكمبيوتر، كالصور والرسوم وديكورات الغرفة، وغيرها من المشتتات الإدراكية البصرية الموجودة في مكان المتعلم. بينما يمكن التحكم بكل المشتتات الإدراكية البصرية والسمعية في البيئة التعليمية الصفية المباشرة. كما لا يمكن للمعلم في غياب المواجهة مع المتعلمين أن يحكم على أدائه الإلكتروني، ومدى فاعلية درسه، نتيجة لعدم قدرته على ملاحظة المتعلمين كما هو الحال في الدرس العادي في قاعة الدراسة حيث بإمكانه ذلك من خلال ملاحظة ردود فعل المتعلمين على ما يقول ويعرض عليهم من معلومات وأفكار، وبالتالي فلا يمكنه تحديد مواطن الصعوبة عند المتعلم. أما عبر المواجهة المباشرة في التعليم عن قُرب، فيستطيع المعلم أن يرى أثر تدريسه على وجوه طلابه في الفصل، مما يدفعه للتوقف عند بعض النقاط التي قد تحتاج إلى توضيح أو تفسير. وعلاوة على ذلك فلا يمكن للمعلم أن يعرف من معه ويتابعه من طلابه ومن ليس كذلك، ومن حاضر الدرس بحضوره الفعلي وليس الاسمي فقط، فهو يعلم علم اليقين أن الطالب معه في الصف الافتراضي، ولكنه لا يعلم إن كان هذا الطالب أو ذاك حاضرا معه بذهنه وحواسه وأحاسيسه، مما يعني أنه قد يكون الطالب حاضرا باسمه وليس بعقله ولا ببدنه، وقد يكون حاضرا بالفعل، ولكنه منشغل بأمور أخرى إلكترونية وغيرها. وليس هذا فحسب، بل وربما يكون انشغاله بحوارات وتغريدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومشاهدات فيديو ومسلسلات درامية وغيرها من الملهيات الإلكترونية المتاحة. وكل هذه ملاحظات أولياء الأمور على أبنائهم أثناء الدروس الافتراضية. والسؤال هو، أليست هذه نُزهةً للمتعلم، وبُعداً عن التعليم؟. كلية التربية – جامعة قطر ​ [email protected]