29 سبتمبر 2025
تسجيلتجري العادة بمقارنة الأوضاع الاقتصادية العربية بالغربية عموما لرغبتنا في أن تتحسن أحوالنا وتتقارب مع الوقت من الغربية. إن التشابه مثالي، إذ هنالك عوائق أو فوارق كبيرة وبعيدة تفصل مجتمعاتنا عن الغربية تبدأ من التاريخ إلى الثقافة والجغرافيا وغيرها. لذا لهذا التشابه مغذى أكاديمي ونظري ونفسي كبير، لكنه يبتعد عن الواقع في العديد من الأحيان بل يقترب من الأحلام والتمنيات. مقارنة الأوضاع الاقتصادية العربية بالتركية ربما تكون أقرب إلى الواقع. من يزور تركيا دوريا يشعر بالتقدم الهائل الذي يحققه الاقتصاد بنموه وبنيته التحتية والفوقية في ظروف لا يمكن وصفها بالسهلة. مقارنة أوضاعنا بالتركية هو في محله نظرا للتقارب الجغرافي والسكاني والثقافي والاقتصادي كما للعلاقات التاريخية الطويلة الإيجابية كما السلبية التي ربطتنا بها على مدى قرون. مقارنة أوضاعنا بالتركية مهمة في وقت انتقال مصيري لتركيا بين الوجهة الأوروبية أو الشرق أوسطية. لا تقل هذه القرارات خطورة عن التحديات التي تواجه العالم العربي مجتمعا وفي كل من دوله. يمر العالم العربي اليوم بظروف دقيقة مرتبطة بالسياسة والحريات والتنمية. العالم العربي اليوم ليس في وضع عادي، بل ربما يمر في فترة انتقالية تطول سنوات بل عقودا. الوضع الاقتصادي متقلب ليس فقط في مصر وإنما في معظم أنحاء العالم العربي بشكل أو آخر. الوضع السوري خطير ولا يمكن تنبؤ ما يمكن أن يحصل، بل إن الخسارة البشرية كبيرة والمادية لا تحصى وعملية البناء ستدوم سنوات. في الوقت نفسه تركيا حائرة بين أن تعزز فرصها للدخول إلى الوحدة الأوروبية وما يتطلب هذا الهدف من تغييرات عميقة في المؤسسات والقوانين، وبين أن تساهم مع الدول العربية وإيران في إدارة شؤون المنطقة كما يحصل بين البرازيل والأرجنتين وفنزويلا فيما يخص أمريكا اللاتينية. استقرار منطقة الشرق الأوسط يحتاج على المدى البعيد إلى المشاركة الفاعلة لكل من إيران وتركيا والدول العربية في جميع الاتفاقيات بدأ من السياسة إلى الاقتصاد. تقع المنطقة على مفترق طرق كبير وخطير يؤثر على مستقبلها. في المؤشرات الاقتصادية، حققت تركيا نموا بلغ 4.7% في سنة 2007، 0.7% في سنة 2008 وانخفاضا قدره 4.8% في سنة 2009 بسبب الأزمة الاقتصادية الدولية التي انعكست سلبا على معظم دول العالم بل على الاستثمارات والتجارة الدوليتين. معدل البطالة التركية هو في حدود 11%، علما أنها ارتفعت إلى 14% في سنة 2009 لتنخفض فيما بعد إلى نسبتها الطبيعية بدأ من سنة 2010. عاد النمو بقوة في سنة 2010 (أي 9.2%) و2011 (8.5%) بسبب السياسات الحكيمة التي هدفت إلى تحقيق التنمية المتوازنة بل حسنت درجة تقييمها الائتماني الدولي. تحقق تركيا عجزا في الموازنة بمعدل 3%، وهذا معقول ويحترم النسب المقبولة أوروبيا عبر اتفاقية "ماستريخت". أما نسبة الدين العام من الناتج، فتبقى في حدود 40% وهي دون النسبة المقبولة أوروبيا أي 60%. من الضروري أن تخفف تركيا اقتراضها الخارجي عبر سياسات تشجع على الادخار داخليا. تشير هذه الأرقام إلى الإدارة الفاعلة بل الجدية للملف المالي الداخلي للإدارة السياسية بقيادة حزب العدالة والتنمية مع الرئيس أردوغان. في الملف الاقتصادي الخارجي، يحقق ميزان الحساب الجاري عجزا سنويا يقارب الخمسة بالمائة من الناتج وهذا يعود إلى عجز ميزان السلع الكبير. بلغت صادرات السلع في سنة 2011"143%" من الناتج مقارنة ب 232% للواردات، فسببت عجزا تجاريا بلغ 89% من الناتج. حتى لو استثنينا الواردات النفطية (54% من الناتج) يبقى ميزان السلع عاجزا. يشير هذا الواقع إلى ضرورة تنشيط الصادرات عبر زيادة الإنتاج أولا وفتح أسواق تجارية تاليا للسلع التركية ليس فقط في أوروبا وإنما خاصة في المنطقة العربية المجاورة. بلغ الناتج التركي 774 مليار دولار في سنة 2011، لكن الحجم السكاني البالغ 75 مليون شخص خفض الناتج الفردي إلى 10 آلاف و400 دولار أي معدل منخفض أوروبيا ومقبول عربيا باستثناء دول الخليج طبعا. يشير الرقم التركي إلى الفرص الكبيرة التي تمكن الاقتصاد من النمو بشكل أكبر وأسرع، إذا استقطب الاستثمارات في القطاعات التي تحدث نموا وتستوعب العمالة الجيدة المتوافرة. ما الذي ميز النجاح التركي النسبي؟ كيف استطاعت الوصول إلى وضعها الحالي؟ ما هي السياسات المستقبلية التي عليها اتباعها لتعزيز أوضاعها ورفع مستوى الناتج الفردي؟ أولا: لا يمكن التكلم عن تركيا من دون ذكر التأثير الكبير الذي أحدثه فيها مصطفى كمال أتاتورك مؤسسة الدولة الحديثة. وصفه "دافيد لويد جورج" رئيس الوزراء البريطاني في سنة 1922 بالعبقري، وتمنى لو كان لبريطانيا عبقريا مثله. من يقيم إنجازات الزعيم أتاتورك الضخمة خلال فترة 1923 \ 1938، يتعجب من أن النتائج لم تصبح بعد بمستوى طموحه. إنجازات أتاتورك كبيرة، منها إعطاء المرأة نفس الحقوق كالرجل، علمنة وعصرنة الدولة وفصل الدين عن السياسة، تحديث وتطوير التعليم خاصة التقني والمهني، التحديث في الفنون والقوانين والمؤسسات، تطوير القطاعات وفي طليعتها الزراعة، اعتماد الخطط الإنمائية ومد سكك الحديد لتغطي كافة أنحاء البلاد. إنجازات كبيرة في فترة قصيرة نسبيا لرجل وهب معظم ثروته الخاصة للدولة والسلطات المحلية في سنة 1937. حافظت كل الحكومات المتتالية بما فيها الحالية على الإنجازات الأساسية لأتاتورك بعد أكثر من 70 سنة على وفاته، مما يشير إلى التأييد الشعبي لها وإلى حس المسؤولية الكبير الذي يتمتع به القادة وإلى إدراكهم للمصلحة الوطنية العليا في شقيها السياسي والاقتصادي. ثانيا: السياسات الاقتصادية الحكيمة التي نفذت عبر الزمن والتي جنبت البلاد خسائر كبرى نتيجة أزمة 2008 وسمحت للاقتصاد بالنهوض بسرعة. ثالثا: العلاقات الاقتصادية التركية الأوروبية قوية وتتمثل خاصة في الاستثمارات المباشرة الخارجية حيث تشكل 72% منها. رابعا: رغم الجهود الكبيرة، لا يزال الاقتصاد التركي يعاني من ضعف التنافسية بسبب ارتفاع تكلفة العمالة نسبيا مقارنة مع الدول المنافسة خاصة الآسيوية. رغم استمرار الرغبة التركية في الانضمام إلى الوحدة الأوروبية، لابد لها من مراجعة التجربة اليونانية والاتعاظ منها خاصة أن الظروف والأوضاع متشابهة. من الضروري أن تقارن تركيا مصلحتها في الانضمام إلى أوروبا مع مصلحتها في البقاء خارجها، أي عبر توسيع وتعميق علاقاتها الاقتصادية العربية. نرى في الخيار الثاني مصلحة كبرى على المدى الطويل لتركيا يحدث توازنا في المنطقة تستفيد منه تركيا وتفيد غيرها أيضا. يتم هذا مع الحفاظ على علاقات ممتازة مع أوروبا والغرب كما الشرق.