17 سبتمبر 2025
تسجيلتوفي الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا عن عمر يناهز 95سنة، هذا البطل الاستثنائي لحقبة تاريخية كاملة في النضال من أجل الحرية، ليس لشعب جنوب إفريقيا فحسب، إنما للعالم كله. وحين تم انتخابه كرئيس لجنوب إفريقيا في عام 1994، أجرى مانديلا عملية تفكيك النظام القديم القمعي – نظام الابارتايد – وخلص شعبه من وباء التفرقة العنصرية، وقام بمصالحة الجنوب إفريقيين الأفارقة والأوروبيين "الأفريكان"، وجمعهم في نطاق أمة جديدة، "أمة قوس القزح"، مدعومة من قبل قطاعات المجتمع، بما فيها الأقلية البيضاء. وأخذ مانديلا بيد الجميع نحو بناء ديمقراطية تجمعهم تقوم على مبدأ التعدد والاختلاف والتعارض، ووضع أسس الثقافة التعددية. الحرية في فلسفة مانديلا هي كل متكامل لا تتجزأ، وهي تعني كل شعوب الأرض قاطبة، لهذا السبب كان المناضل نيلسون مانديلا صارماً في الدفاع عن حرية الشعب الفلسطيني، حين قال ذات يوم": نعلم جيداً أن حريتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين". وفي مارس 2001 وجه زعيم جنوب إفريقيا رسالة إلى الصحفي والكاتب المعروف توماس فريدمان. جاء فيها ما يلي: إن "الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ليس مسألة احتلال عسكري فحسب، فإسرائيل ليست دولة قامت في ظروف طبيعية وصودف أنها احتلت بلداً آخر عام 1967. الفلسطينيون لا يناضلون من أجل دولة، بل لتحقيق الحرية والتحرير والمساواة، تماماً كما ناضلنا في سبيل الحرية في جنوب إفريقيا". مانديلا الذي قاد مصالحة وطنية قل نظيرها في العالم عبر إعداد جنوب إفريقيا لأرقى أنواع الوئام السياسي والعرقي من خلال جلسات الاستماع في لجنة الحقيقة والمصالحة مع الذات - بينما كانت أوروبا ولا تزال – تتخبط في صراعات عرقية وقومية وسياسية، وتفتح أبوابها للتدخل الخارجي "الأمريكي". وقد اختار أن يتقاعد عن عمر يناهز الـ80 في الذكرى السنوية الثالثة والعشرين لانتفاضة طلاب سويتو عام 1976، التي كانت بمنزلة الدرب المضيء والشعلة الحقيقية التي أشعلت نضال السود، وزادت من اتساع ميدان التمرد، والمظاهرات، والعصيان المدني، ومن امتداد رقعة المواجهة ضد نظام حكم الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا. ومنذ إجراء أول انتخابات حرة وديمقراطية في جنوب إفريقيا من 26 إلى 28 أبريل عام 1994، التي قادت إلى انتصار التحالف الانتخابي الثلاثي "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والحزب الشيوعي والكونفيدرالية النقابية الجنوب إفريقية. الكوساتو"، حيث حصل المؤتمر على 63 في المائة من الأصوات و252 مقعداً في البرلمان، والحزب الوطني على 20 بالمائة من الأصوات، عملت حكومة مانديلا منذ وصولها للسلطة إلى تحسين أوضاع الأغلبية السوداء التي عانت 350 عاماً من الفصل العنصري. وكان عدد سكان جنوب إفريقيا في عام 1994 قد بلغ 37.7 مليون نسمة وأصبح 47 مليون نسمة خلال العام 2000، منهم 75 في المائة من السود، و13 في المائة من البيض، و9 في المائة من الملونين، و3 في المائة من الهنود. وقد واجه المؤتمر الوطني الإفريقي الذي يمتلك الأغلبية المطلقة مهمة صعبة في عملية بناء الأمة، نظراً لتخليه عن الإستراتيجية الاقتصادية الحقيقية المتمثلة في القيام بعمليات التأميمات الكبرى، وبناء الدولة الكينزية القوية من أجل تحسين المستوى المعيشي للسكان. فالمعجزة الديمقراطية التي حصلت على 1994 إضافة إلى حجم الرئيس نيسلون مانديلا دفعا حكومة جنوب إفريقيا إلى انتهاج سياسة الواقعية في ظل النظام الدولي الجديد بزعامة الولايات المتحدة وهيمنة العولمة الرأسمالية على صعيد كوني. لذلك قادت الحكومة إلى تبديل مواقفها الإيديولوجية والسياسية في شكل جذري، إذ إنها أعلنت عن تبنيها وصفات صندوق النقد الدولي، وخصخصة قطاعات مهمة كانت تابعة للقطاع العام. وهكذا أبقت حكومة مانديلا السياسية الاقتصادية، المرتبطة بنيوياً بالعالم الرأسمالي المتقدم، لكنها قامت بإصلاحات جذرية لمصلحة الأغلبية السوداء، فنجحت بالفعل في إمداد منازل السود بالمرافق ومد مظلة الرعاية الطبية المجانية لتشمل 90 في المائة من الأمهات والأطفال، ورغم مرور ثلاث سنوات على الثورة التونسية التي فجرت ربيع الثورات العربية، فإن هذه الثورات العربية، لم تحقق بعد أهداف العدالة الانتقالية، كما حققتها دولة جنوب إفريقيا عقب صعود مانديلا إلى السلطة. وكان الزعيم التاريخي مانديلا وجه رسالة - وصية في 31 يوليو 2011، إلى "الثوار العرب"، شرح لهم أن المعضلة التي أقلقته بعد استعادته حريته هي كيفية التعامل مع "إرث الظلم لإقامة نظام عادل". وقال: "خرجتم للتو من سجنكم الكبير. إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي". وحذر من الاعتقاد أن "الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء. فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام ومفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلاد مع الخارج. واستهدافهم يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن". وتابع ناصحاً: "أحبتي، أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن. عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون إلى هذه البلاد، فاحتواؤهم ومسامحتهم أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر". وشتان ما بين حكمة وتعقل المناضل التاريخي نيلسون مانديلا المؤمن بالحرية وبفلسفة الديمقراطية التوافقية، وبمبدأ تحقيق العدالة الانتقالية من دون تشفي وانتقام وإقصاء، وبين ما آلت إليه الأوضاع في البلدان العربية التي حصلت فيها ثورات أكلت أبناءها، وأنجبت الإرهاب.وأنجبت الإرهاب.