15 سبتمبر 2025

تسجيل

مقتل خاشقجي.. القشة التي قصمت ظهر المملكة

08 نوفمبر 2018

مما جاء في كتب الأمثال العربية أن أعرابياً بدأ يحمل أمتعة كثيرة على بعيره، حتى تراكم فوق ظهره أكثر مما يطيقه هذا الحيوان، الذي بدأ يئن من ثقل الأحمال على ظهره، لكن ذلك الأنين لم يلفت انتباه الأعرابي، واستمر في وضع الأحمال حتى بقيت له حزمة قش، قرر أن يحملها غذاء لدابته في الطريق. سمع الأعرابي أخيراً أنين البعير فانتبه إلى أن ذلك ربما بسبب كثرة الأحمال، ما جعله يضع عليه الحزمة بهدوء. قشة بعد قشة خوفاً من أن ينهار بعيره الذي ظل يقاوم، إلى أن جاءت اللحظة التي وضع فيها آخر قشة، حيث انهار البعير وسقط، فتعجب الناس من حوله وقالوا: قشة قصمت ظهر البعير؟! فذهبت مثلاً. بالطبع لم تكن تلك القشة سوى شرارة فجرت تراكمات واحتقانات داخلية لم يتم الاهتمام بها من ذي قبل.. وحين يحدث الانفجار - ولأن الناس لا تنظر إلى التفاصيل والمسببات الأولية - تعتقد أن سبب الانفجار هو القشة، التي قد تكون على شكل حدث ظاهري يراه الناس، فيعتقدون أنه السبب، فيما الحقيقة والواقع أن الحدث ذاك ما هو إلا أحد أو آخر الأسباب التي أدت إلى الانفجار. الرياض أنفقت ملايين الدولارات على بعض أكبر وأشهر شركات المحاماة والعلاقات العامة والإعلام في الولايات المتحدة وبعض دول الغرب، من أجل ترويج الصورة الجديدة للمملكة، من بعد أن تمكن ولي عهدها من السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، حيث ظن العالم الخارجي ظناً حسناً في الملك القادم للسعودية، دون كثير اهتمام واطلاع على الداخل السعودي، اعتقاداً بأن من يقدر على ترويج نفسه في العالم بكل الوسائل المتاحة، لن يصعب عليه ذلك الأمر بالداخل. قامت الملايين من تلك الدولارات بعملها الإيجابي بداية الأمر، لكن الحماسة والرغبة في التغيير السريع التي سيطرت على ابن سلمان والفريق الذي معه، تصاحبهما قلة الخبرة السياسية في إدارة المكونات الكبيرة، وفهم علاقات بعضها ببعض، بالإضافة إلى الإدارة التعسفية للداخل وبشكل غير مسبوق، كل ذلك خلق جواً من الاضطراب في الخطة، وسرعان ما ارتدت الأمور على عكس ما كان يُراد لها. بدأ ابن سلمان في تحميل ظهر المملكة بأحمال كثيرة، بدأها بحمل حرب اليمن التي تحولت إلى كارثة إنسانية، ثم خلق أزمة حصار قطر وخسارة حليف قوي، والدخول في حرب إعلامية مع قوة إقليمية كبيرة لها أجندتها السياسية وهي إيران، ثم بدأ يحمّل ظهر الدولة بمشكلات خلقها بالداخل، بدءاً مع رموز الأسرة الحاكمة والمقربين، ثم تبعهم بآخرين من التجار ورجال الأعمال المحليين، وختم الأحمال بالعلماء والمفكرين وأصحاب الرأي وغيرهم كثير كثير.. حتى صار العالم ينتظر الجديد من الأزمات والمشكلات كل يوم تطلع عليه شمس الرياض ! لم تعد المملكة تقدر على رفع كل تلك الأحمال على ظهرها، وبدأت أصوات الاستغاثة والأنّات تخرج من هنا وهناك، رغبة في تخفيف ما على ظهر الدولة من أحمال لم تحملها منذ عقود عديدة، حتى وإن كانت قد حملتها في زمن ما، فمن المؤكد أنها لم تكن بالطريقة والنهج الذي صارت عليه الأمور منذ سنتين فقط لا أكثر.. فالرعونة والتسرع في إدارة الأمور والقضايا، أديا إلى كثير تخبط وعشوائية في اتخاذ القرار ولا أقول صناعته، لأن صناعة القرار لها أصول وقواعد، أبرزها التأني وحساب المآلات والتبعات.. لكن ما يحدث بالمملكة منذ عامين وأكثر قليلاً، لا يوحي لك أن هناك قراراً يُصنع، بل قرار يتم اتخاذه سريعاً وفق أهواء وأمزجة، دون أي حساب للتبعات. مقتل جمال خاشقجي بالطريقة الوحشية البشعة، نموذج للتهور والتخبط في اتخاذ القرار، دون أدنى انتباه لما يمكن أن يحدث أو ينتج عنه من نتائج وتطورات غير مرغوبة، ربما دفعتهم إلى ذلك قرارات عشوائية ماضية قد نجحت في تحقيق المطلوب وسلمت الجرة، ولكن ليس دوماً تسلم الجرة، فلابد أن تنكسر يوماً ما. وهذا ما حدث في قضية خاشقجي، التي يمكن وصفها أيضاً بالقشة التي قصمت ظهر المملكة، وكشفت عوارها الداخلي وسوءاتها الخارجية، وصارت تعيش تحت أنظار وأضواء العالم كله، ولا تجد أثراً للملايين من الدولارات التي صرفتها في تجميل وتحسين وترويج صورتها، وهي اليوم بأمسّ الحاجة لذلك.. ولكن المال ليس كل شيء وإن قدرت على فعل كل شيء.. إذ إن لكل شيء حدودا، وما حدث في قصة خاشقجي هو أمر خارج كل الحدود. [email protected]