08 أكتوبر 2025
تسجيلالحديث عن حُسن التعامل مع المخالف للحيلولة دون وقوعه في براثن التطرف، يدفعنا للمرور على حياة القدوة - صلى الله عليه وسلم – نستلهم منها بعض صور التعامل الطيب مع الناس، ونستعرض أهمية ضبط النفس وكيفية توجيهها في وقت الأزمات والشدائد. حين رأى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - قساوة قريش معه، ارتأى استخدام تكتيك جديد ضمن إستراتيجية الدعوة والانتقال بها لخارج مكة، بدلاً من التصادم مع أهل مكة، فلعل التكتيك الجديد يثمر ويجد - صلى الله عليه وسلم - من ينصره، فكانت رحلته مع زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى الطائف، ثاني المدائن العربية يومذاك. ما إن وصل هناك حتى بدأ يدعو أشراف ثقيف للإسلام، وظل كذلك أياماً لكن دون نتيجة تُذكر، حتى سأم القوم وجودهما وبدأوا بالتحرش والتطاول عليه بفحش الكلام، بل طالبوه بمغادرتهم على الفور.. فما كان منه أن استجاب إليهم وكله أمل أن يعاود التواصل معهم مستقبلاً فلعل الله يهديهم. لكن الأشقياء ما اكتفوا بمغادرته، بل آذوه هو وصاحبه زيد حتى خرجا مضرجين بدمائهما الزكية وقلوبهما تعتصر ألماً لما حدث معهما بالطائف، حيث لم يكونا يتوقعان ما حدث أبداً. فدعا بدعوته المشهورة:" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي.. " وما أن انتهى حتى رفع رأسه - صلى الله عليه وسلم - كما يقول عن الموقف:" فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت فإذا فيها جبريل - عليه السلام - فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين - جبلان بمكة - فقال - صلى الله عليه وسلم - وروح المسؤولية والرحمة تسيطران عليه: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً ". هكذا أبى - صلى الله عليه وسلم - في ذاك الموقف العصيب الذي لو أحد غيره في الموقف، وقد أصابه ما أصابه، لما تردد لحظة في نُصرة ملك الجبال. فمن الذي تأتيه صلاحيات وقوى خارقة ولا يستخدمها وقت حاجته؟ إنه الوحيد فحسب، محمد بن عبدالله، عليه الصلاة وأزكى السلام، لم يستخدم تلك القوة الخارقة لأنه أبقى في نفسه أملاً ولو كان ضئيلاً، أن يتغير الوضع يوماً ما، ويخرج من أصلاب أولئك الذين آذوه وأدموه، من يؤمن بالله ورسوله، ويكون سنداً وذخراً للإسلام والمسلمين، وهذا ما حدث فعلاً. لولا الأمل الذي ظهر في أعماق نفسه - صلى الله عليه وسلم - لما كان لثقيف أي أثر إلى يوم الدين ولكان مصيرهم كمصائر الأمم البائدة، قوم عاد وثمود وأصحاب مدين وقوم لوط وغيرهم. هكذا كانت رحمته - صلى الله عليه وسلم - وسعة صدره وأفقه البعيد ورؤيته الواضحة. هكذا كان وضوح مفهوم المسؤولية عند أكرم الأكرمين، وقد وقع ما تمناه - صلى الله عليه وسلم - بعد حين من الدهر قليل، حيث لعبت ثقيف دوراً في تاريخ الاسلام، بل هي من ثبتت على الاسلام يوم ارتد كثيرون في الجزيرة العربية بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ذاك إلا بفضل رحمة نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم. دعوها فإنها منتنة من الأمثلة الأخرى ضمن سياق الحديث عن المسؤولية، أن رجلاً من المهاجرين في المدينة قام وفي لحظة ضعف، بضرب رجل من الأنصار لخلاف وقع بينهما، فما كان من الأنصاري سوى أن قام ونادى: يا للأنصار، فقام المهاجري بدوره ونادى بالمثل: يا للمهاجرين، حتى اجتمع المهاجرون والأنصار، ووصل الأمر سريعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أتى مسرعاً لموقع الجمهرة، وقال: ما بال دعوى جاهلية ؟ قالوا: يا رسول الله: ضرب رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: دعوها فإنها منتنة. هل انتهى الأمر بدعوته صلى الله عليه وسلم تلك؟ لا، لم ينته الأمر. فقد سمع رأس النفاق يومئذ، عبدالله بن أُبي بن سلول بما حدث بين الأنصاري والمهاجري، فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل. ويقصد بالأعز نفسه والأذل هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ كلامه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان معه الفاروق - رضي الله عنه - فقام من فوره وقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن منطلق روح المسؤولية: دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. مرة أخرى لم يستخدم النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - صلاحياته كرئيس للدولة من أجل ردع رأس المنافقين يومها، إذ كان من الممكن أن تؤدي إلى فتنة عظيمة بين المسلمين وهم بعدُ في بداية بناء الدولة. فلماذا وهو رئيس الدولة يومها، لم يستخدم صلاحياته؟ الجواب بكل اختصار ووضوح، لأنه نبي ورسول وصاحب دعوة أولاً، ومن ثم كان يرى ما لا يراه كثيرون حوله، وهو المؤيد من السماء بوحي لا ينقطع. وربما أيضاً في تلك الحادثة، رأى ما هو أهم من قطع عنق منافق سيهلل الجميع لموته. وواضح أنه رأى تغليب المصلحة العامة على الخاصة. رأى أهمية تماسك الصف المسلم في ذلك الوقت وأنه الأنفع للأمة من تغييب شخص واحد وإن كان سيئاً مؤذيا.. لا تسيء استخدام الصلاحيات إن أسهل ما يمكن أن يتخذه أي صاحب قرار اليوم مع مخالفيه أو منتقديه، هو استخدام كامل الصلاحية المتوفرة له بقانون أو دونه، فيقهرهم بأي وسيلة ممكنة. ذلك أن الصعوبة والتحدي الحقيقي في مثل تلكم الحالات، تتمثل في الصبر على المخالف ومناقشته ومحاورته، فلعله يتغير أو تتغير الظروف المحيطة به، فإما بعد ذلك أن يميل نحوك أو يكف شره عنك، وكلاهما خير. هكذا كان الأنبياء وأصحاب الدعوات. يبحثون أولاً عن الخير في الآخرين مهما تضاءلت فرص العثور عليه. إذ لابد أن في كل إنسان ذرة خير، والمهارة أو الشطارة - كما تقول العامة - تكمن في كيفية اكتشافها وتنميتها واستثمارها في الوقت المناسب، وعدم اللجوء إلى ورقة الصلاحيات والنفوذ إلا حين نفاذ كل الأوراق والحلول. أليست هكذا هي المسؤولية؟ هكذا فهمتها. فماذا عنك؟. [email protected]