13 سبتمبر 2025
تسجيلفي أيام غابرة من كان يتخيّل أن يقابل العرب بصمت أي مواجهة بين سوريا وتركيا، أياً كان نوعها، حتى لو كانت سوريا هي المبادرة وبنظامها هذا في أيام الرئيس الأب، ورغم كل المآخذ على سجله القمعي والدموي، لكن ها هي ممارسات الرئيس الابن تغير العقول والقلوب، المواقف والعواطف، لشدة ما أوغل في الخطأ والقتل والعنت. التفاوض المتبادل بين تركيا وقوات النظام السوري هو مشروع حرب تبحث عمن يعطيها الضوء الأخضر الدولي، لكن موقفي الولايات المتحدة وروسيا كانا واضحين، كذلك حلف الأطلسي، وحتى إيران، فالأخيرة وإن كانت تعتبر الحرب التي يخوضها النظام ضد الشعب السوري "حربها"، إلا أنها مدركة أن أقلمة الحرب قد لا تكون لمصلحتها، والأكيد أنها ليست في مصلحة حليفتها سوريا. لكن هذا التقدير للموقف يقتصر على معطيات اللحظة الراهنة، وقد يتغير لاحقاً. حرص رجب طيب أردوغان، غداة تصويت البرلمان على السماح للحكومة بـ"عمليات" خارج الحدود، تحديدا داخل سوريا، على تأكيد أن تركيا لا ترغب في الحرب، رغم إصراره على أن أي "اعتداء" سوري سيستدعي ردا مناسبا، كان هذا التوضيح موجها إلى جميع الأطراف، بمن فيهم الحلفاء في الأطلسي الذين أكدوا تضامنهم مع أنقرة بكل الألفاظ القوية ليشجعوها على استبعاد أي تصعيد خلال ردّها على الجانب السوري، لكن تكتم دمشق وعدم مصداقية إعلامها الرسمي يمنعان من معرفة حجم الرد التركي والخسائر الناجمة عنه، فالمصادر غير الموثوق بها تحدثت عن قتلى وجرحى وعن تدمير قاعدة جوية. كان رضوخ دمشق للضغط الروسي الحاسم اضطرها للاعتذار لتركيا في وقت قياسي، وقد فهم أن موسكو لم تقبل بإمهال النظام كي يجري تحقيقا في القصف الذي أدى إلى قتل خمسة مدنيين أتراك في بلدة اكجاكالي الحدودية. فأي تحقيق كان سيستغرق بضعة أيام، ثم أن بعض مصادر النظام راح يروّج أن قوات المعارضة هي التي قصفت بغية دفع تركيا إلى التورط. لكن الروس يعرفون حليفهم، ويعرفون ما هو ممكن أو غير ممكن في التعامل معه. لذا بادروا إلى تسويق الرواية التي تتحدث عن خطأ غير مقصود ومهدوا مسبقا للاعتذار وفقاً للأصول، ولعلهم طلبوا أيضا إرساله عبر الأمم المتحدة حيث كان مجلس الأمن الدولي يستعد للانعقاد وتدارس التوتر التركي – السوري، وبالتالي أراد الروس دخول الجلسة بعد نزع الفتيل. في أي ظروف عادية، أو حتى في أحوال التوتر البارد يمكن قبول "رواية الخطأ" أما وقد بلغ التوتر سخونة غير مسبوقة فإن الخطأ غير مسموح به، في أواخر يونيو الماضي أسقطت الدفاعات السورية طائرتين تركيتين كانتا تقومان بمهمة استطلاعية اعتيادية، وفي السابق لم تكن سوريا تعترض على هذه الطلعات إلا أنها استغلت اقتراب الطائرتين من مجالها الجوي لإرسال إشارة سياسية إلى أنقرة، قتل الطياران، وهناك جدل الآن حول التقاطهما حيين ثم قتلهما ورمي جثتيهما في البحر، ضبطت تركيا نفسها ولعلها اعتبرت أن ثمة "خطأ" حصل من جانبها، إلا أنها استحثت حلف الأطلسي لتسجيل الواقعة وتوجيه تحذير إلى سوريا، هذه المرة اختلف الأمر، لأن مدنيين قتلوا، ولأن الظروف لم تعد تسمح بالسكوت. بعد الاعتذار السوري توقف القصف، لكن المراقبين اعتبروا أن جولة انتهت في انتظار الجولة التالية. ولم تتأخر هذه، إذ أن تبادل القذائف استؤنف في اليوم التالي، ثم توقف، وكأن الجانب السوري يريد أن يرسخ واقعا أو أمرا واقعا، فهو يريد بالتأكيد إقحام تركيا عسكريا بأي شكل، علما أن أي حرب لم يعد مقدرا لها أن تنقذه من السقوط، لكن ثمة أسبابا تدفعه إلى ذلك، من بينها أن الأزمة دخلت مرحلة دقيقة، فالأسابيع الأربعة الآتية التي تسبق الانتخابات الأمريكية يريد النظام استغلالها لخلق وقائع جديدة على الأرض، خصوصاً أنه لم يتمكن من الحسم في الداخل وباتت عملياته تقتصر إما على التدمير المنهجي أو المجازر والإعدامات الميدانية المبرمجة، من دون أن يغير ذلك شيئا على الأرض، ولعله يعتقد أن استدراجه تركيا يمكن أن يجبر الولايات المتحدة على الاتصال به من أجل وقف المواجهة، أو يمكن أن يضطر حلفاءه لتغيير تكتيكاتهم ومسايرته في تخطيطاته، وقد تكون لديه معطيات تجعله مطمئناً إلى أن إيران ستبدل موقفها وتجاريه، إذ حصل في السابق أن مررت طهران تحذيرات مبطنة للأتراك. لاشك أن انقلاب تركيا كان أكثر إيلاما مما توقعه النظام، لكنه كان انقلابا شبه معلن منذ اللحظة التي بدأ فيها النظام يستخدم آلة القتل، وقبل ذلك أطلقت أنقرة إنذارات بلهجات متفاوتة، وعرضت وساطات وكانت مستعدة لمساعدة النظام لو أنه حاول ضبط العنف وطرح مبادرة سياسية معقولة، إلا أنها استنتجت في النهاية أنه نظام ميؤوس منه، ولا يبحث إلا عمن يساعده على المزيد من القتل، ومنذ الشهر الرابع للأزمة حتى اليوم لم يصدر عن دمشق ما يمكن أن يكذب هذا الاستنتاج، بل كانت أنقرة اختبرت النظام في حماة "أواخر يوليو 2011"، إذ وعد بالانسحاب منها ووقف العمليات، وما حصل أنه حرك آلياته لتصورها الكاميرات ثم اعادها بعد مغادرة الوفد التركي، ومنذ ذلك اليوم حسم الأتراك موقفهم وقرروا الانخراط الكامل في دعم المعارضة سياسياً وعسكرياً. نتيجة لهذا الدعم أصبح معظم شمال سوريا خارج سيطرة النظام، باستثناء بعض الجيوب، وأصبحت الطريق من الحدود إلى داخل حلب مفتوحة ولم تعد المنافذ الحدودية تحت إشراف دمشق. وتذهب التوقعات حالياً باتجاه تعزيز تسلح المعارضة لتمكينها من فرض "المنطقة الآمنة" بنفسها ومن دون الحاجة إلى تدخل خارجي أو حتى إلى غطاء جوي. وهذا في حد ذاته يشكل سبباً للتصعيد الحالي، فروسيا تمانع إنشاء منطقة آمنة، كذلك إيران، وهما متضامنتان مع النظام في اعتبار أن الدور التركي غيّر طبيعة الأزمة وسيكون فاعلاً في تعقيد مساومات المرحلة المقبلة مع الولايات المتحدة.