19 سبتمبر 2025

تسجيل

مخاض عسير لأول حكومة سودانية بعد الانفصال

08 أكتوبر 2011

منذ عدة أسابيع يراوح إعلان الحكومة الجديدة في السودان مكانه وسط ظروف سياسية دقيقة وتعقيدات عديدة.. الحكومة الجديدة تكتسب أهميتها من كونها أول حكومة بعد انفصال الجنوب الذي ترتب عليه خروج الحركة الشعبية من التشكيلة الوزارية باعتبارها شريكا أكبر للمؤتمر الوطني الحزب الحاكم.. المؤتمر الوطني يسعى بجدية لإشراك أكبر قدر من الأحزاب خاصة ما يعرف بالأحزاب التاريخية مثل حزبي الأمة القومي برئاسة الصادق المهدي والاتحادي الأصل برئاسة محمد عثمان الميرغني.. رغم أن المؤتمر الوطني ينظر إلى هذه الأحزاب نظرة قائمة على كسبها في آخر انتخابات، ولم تحصد منها شيئا يذكر لكنه يبذل قصارى جهده لإشراكها بغض النظر عن وزنها الانتخابي!! مشاركة هذه الأحزاب في تلك الانتخابات صاحبها جدل وتردد لا يتسق مع دعوتها للتداول السلمي للحكم وفقا لأسس ديمقراطية سليمة.. التردد الكبير انتهى بتلك الأحزاب إلى المقاطعة في آخر اللحظات.. الاضطراب الذي تعيشه تلك الأحزاب كان أمرا متوقعا بالنظر إلى تعاملها الاستخفافي بالعملية الانتخابية.. فهي لم تستعد للانتخابات رغم حديثها المكرر عن التحول الديمقراطي، وما قامت به من مقاطعة يدخل في خانة الفعل السلبي، حيث طالبت بالتأجيل أو المقاطعة لأسباب لم يقتنع بها حتى المجتمع الدولي الذي ظل يساندها بشكل واضح. الموقف حتى لحظة كتابة هذه المقالة، هو أن حزب الأمة قطع بعدم المشاركة، بينما حزب الاتحادي الأصل على خلاف فقط على نسبة المشاركة وهذا في اعتقادي ونظرا لحرص المؤتمر الوطني مسألة بسيطة لن تمنع المشاركة نهائيا.. ما يؤسف له أن الإرث الحزبي في الممارسة غير الرشيدة للديمقراطية قاوم في كل المراحل منذ الاستقلال بشدة محاولات الإجماع الوطني حول ما هو معلوم بالضرورة أو ما يعرف بالحد الأدنى للاتفاق بشأن القضايا الوطنية الرئيسية. هناك قناعة تامة لدى كثير من النخب السودانية بأن حتمية وجود الدولة لا تعني نفيا واضطهاد الرأي الآخر بما في ذلك الرأي المعارض، لأن الرأي الآخر شرط ضروري في عملية الالتزام بالعقد الاجتماعي.. في الوقت ذاته على الأحزاب المعارضة النظر للعمل المعارض باعتباره فنا، بيد أن هذا الفن فلسفة قائمة على مرتكز أساسي وهو الإيمان الراسخ بوحدة وقدسية الدولة.. ونحسب أن القيادات الحزبية في السودان رغم تطاول ممارستها السياسية لا تخلو تحركاتها من عدم نضج سياسي يقودها إلى الخلط بين الدولة والحكومة فتستحيل الفواصل بين الاثنين إلى سراب.. لعل الصادق المهدي كان أكثر القيادات الحزبية صاحبة التصرفات الرمادية وهي تصرفات ينظر إليها البعض على أنها توجهات موروثة نحو التدمير الذاتي.. هكذا كان الرجل دائما على مر تاريخه السياسي الطويل الذي قضى فيه حوالي (50) عاما.. عادة بخس الناس أشيائهم لا تفارق الرجل، فهذا النفط ذلك السائل السحري الذي خرج بعد معاناة شديدة في السودان رأى الصادق المهدي فيه – حينذاك - أنه "مجرد أحلام "ظلوط" التي يراها النائم من السرير "ويتزلط"!!" هكذا قال الرجل الذي أفلح في استحداث تعبيرات مدهشة في مسرح السياسة السودانية.. الزّلط في اللغة يعني المشي السريع لكن استخدام السيد الصادق لهذا التعبير ربما كان من باب التقعير!!. صحيح أن الصادق المهدي شخصية سياسية (كاريزما) لكن يبدو أن هذه (الكاريزما) رغم أنها بدأت بداية قوية لكنها أصبحت روتينا حيث تتناقص روح الحماس وتصبح الرغبة في استعادة القديم شعورا مسيطرا يصاحبه شيء من عدم التوازن. رفض الصادق المهدي المشاركة في الحكومة ربما يبدو منطقيا في رأي البعض حيث إن الحكومة تواجه مشكلات اقتصادية تبدو عويصة مما يترتب عليه غضب الشارع السوداني، فهذه ظروف مواتية ليكون في المعارضة حيث المكاسب السياسية تبدو أكبر، كما أن ذلك الرفض يؤكد شخصية الرجل التي عرفت بالتردد والمواقف الرمادية.. بعض مناوئ الصادق المهدي يقولون إن الشارع السوداني لم ينس فترة حكمه التي كانت مليئة بالمعاناة الاقتصادية وقيل إنه ترك في خزينة الدولة حوالي (30) ألف دولار في العام 1989م عندما استلم الرئيس البشير الحكم في انقلاب أبيض وحالة اقتصادية مزرية أهم مظاهرها تطاول صفوف البنـزين وأنابيب الغاز والعيش.. عسكريا كان الجيش منهارا وأفراده في الجنوب حفاة عراة يكابدون ظروفا قاسية وقائد التمرد العقيد جون قرنق يهدد بشرب القهوة في المتمة (شمال السودان)!! أما مشكلة الحزب الاتحادي الأصل كما أسلفنا ليست في رفض المشاركة مبدأً ولكن في نصيب الحزب وقيل إنه عُرض عليه 20 %من الحقائب الوزارية في حين طالب بـ30% خاصة بعدما علم بعدم مشاركة حزب الأمة القومي.. عثمان عمر الشريف القيادي بالحزب الاتحادي يقول (معترفا) إن ما يجري بين القوى السياسية والمؤتمر الوطني في شأن تشكيل الحكومة لا يعدو أن يكون تكتيكات سياسية!! وأكد أن حزبه سيوافق على المشاركة في تشكيل الحكومة إذا تلقى طرحاً (موضوعياً)؟! أيضا يقول (الاتحادي) على لسان الشريف: (حريصون على كيف يحكم السودان وليس من يحكم السودان)!! أعتقد أنه في نهاية المطاف سينال الحزب حوالي 25% وسيشارك في الحكومة الجديدة.. إن حديث الأحزاب السياسية النظري عن الديمقراطية وحتميتها وضرورتها أمر سهل وميسور ظل بعض قادتها يتشدق به لكن الممارسة على أرض الواقع كان محكا أخرس وألجم المنظرين.