19 سبتمبر 2025

تسجيل

"الكمالية" المستمرة في تركيا

08 أكتوبر 2011

تتغير الحكومات في تركيا من العلمانية إلى الإسلامية ومن العسكرية إلى المدنية. تسود انقلابات وحكم الحزب الواحد أو الجنرال الواحد وتنقلب أحيانا إلى حكومات ائتلافية وأحيانا يسارية ثم يمينية. يتغير كل شيء في تركيا. من دولة طرف أثناء الحرب الباردة إلى بلد متواصل مع الجميع خلال السنوات الأخيرة. ثم تنقلب من جديد على سياسات بدت وصفة سحرية لتنمية الدور والحضور. تتعاقب أزمات اقتصادية ويليها نمو وارتفاع مستوى الرفاهية. تتحول تركيا من التطلع إلى الاتحاد الأوروبي إلى المشرق. فترى مستنقعاته فتغرق فيها ثم تخرج منها إلى مظلة أطلسية. كل شيء في تركيا كان يتحول يمنة ويسرى، أماما وإلى الوراء، إلى أعلى وإلى أسفل، إلا ثابتة واحدة لم تتغير كأنها نص مقدّس: الموقف من القضية الكردية. خرج أمس أحمد تورك أحد زعماء الحركة الكردية في تركيا ونائب حزب السلام والديمقراطية الكردي، مطلقا أثقل اتهام للسلطة في تركيا ولحكومة حزب العدالة والتنمية تحديدا بأنها تمارس "إبادة سياسية" للأكراد في تركيا وأنها تحاول تصفية المحرك الأساسي لهذه الحركة. اتهام خطير لكنه ليس بجديد. تكاثفت عمليات حزب العمال الكردستاني في الأسابيع الأخيرة. لكن ذلك ليس مرتبطا تحديدا بتطورات إقليمية وتحديدا بالتوتر التركي السوري. فالعمليات مستمرة منذ العام 1984. فكانت حملة اعتقالات واسعة في صفوف زعماء الأكراد وممثليهم في جنوب شرق الأناضول وفي العاصمة الاقتصادية اسطنبول. المعتقلون كانوا رؤساء بلديات انتخبهم الشعب في انتخابات نزيهة وحرة وديمقراطية على ما يحلو للنخبة الحاكمة في تركيا التغني بالنموذج التركي. والمعتقلون كانوا من زعماء فروع حزب السلام والديمقراطية المعترف به رسميا وله 35 نائبا في البرلمان. المعتقلون بالمئات بتهمة التعاطف السياسي مع طروحات حزب العمال الكردستاني.إذا كانت التهمة أنهم جميعا يساندون حزب العمال الكردستاني فهذا يعني أن هذا الحزب يمثل الشريحة الأكبر من الأكراد في تركيا. وبالتالي على السلطات التركية أن تكون شجاعة في الاعتراف به تماما كما اعترفت أيرلندا بجيشها الجمهوري وإسبانيا بالجناح السياسي لحركة الباسك الانفصالية وإسرائيل بياسر عرفات فلماذا تكون تركيا استثناء في الاعتراف بخصمها داخل الوطن؟ وتناقض أنقرة نفسها عندما ترفض "إرهاب" حزب العمال الكردستاني لكنها تحاول سرا أن تفاوض عبدالله أوجالان، زعيم الحزب، للبحث في سبل حل المشكلة الكردية. تحاور أنقرة أوجالان فيما تقصف جبال قنديل وتعتقل البنية التحتية السياسية للحركة الكردية. تدور الجهود لحل المشكلة الكردية في حلقة مفرغة منذ ثمانين عاما. سنوات من الحروب وسنوات من الهدوء، أنظمة وحكومات تغيرت لكن المشكلة بقيت في مكانها. كان رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان يقول إن المهم ليس إقرار قوانين للإصلاح بل تغيير الذهنية وهي المهمة الأصعب. وهي مقولة سليمة طبقها أردوغان وحزبه بنجاح على العلاقة مع العسكر فأقصى هذا عن تدخله في الحياة السياسية. وطبقها بنجاح على الجسم القضائي مستأصلا مزاجية قضاة في اتخاذ قرارات بحظر هذا الحزب أو حرمان هذا السياسي من العمل. لكنها مقولة كانت تقف عند باب القضية الكردية. تقدم كل شيء في تركيا إلى الأمام إلا ما يتعلق بالمسألة الكردية. ولم يكن أردوغان مختلفا عن رؤساء حكومات اعترفوا بوجود قضية كردية ثم تراجعوا عنها من مسعود يلماز إلى طانسو تشيللر وسليمان ديميريل. وخلال الحملة الانتخابية الأخيرة فجّر أردوغان قنبلته بالتراجع عن قوله بوجود قضية كردية واعتبر أنه توجد فقط مشكلة أفراد من أصل كردي. في الانتخابات الأخيرة حصد حزب السلام والديمقراطية الكردي غالبية أصوات الأكراد ودخل إلى البرلمان بـ 36 نائبا بصفة مستقلة أسقطت عضوية أحدهم. ولو كانوا ترشحوا كحزب لنالوا أكثر فيما لو كان النظام الانتخابي لا يشترط الحصول على عشرة في المائة لدخول البرلمان. وكانت نتيجة الانتخابات انتصارا للحركة الكردية وهزيمة لحزب العدالة والتنمية في المناطق الكردية. ومع ذلك استمرت "الذهنية" الموروثة وعمرها من عمر الجمهورية أي منذ تسعين عاما بأن "الكردي" في تركيا فرد من الدرجة الثانية وربما الثالثة لا حق له لا بلغته ولا بمدرسته ولا بجامعته ولا بتجسيد هويته. وإذا كانت المشكلة الكردية في تركيا تتداخل فيها أحيانا عوامل إقليمية ودولية، فإن ذلك لا يلغي أن الذهنية الاستئصالية الكمالية(نسبة لمصطفى كمال أتاتورك) لا تزال في أساسيات سلوك حزب العدالة والتنمية تجاه قضية كان ثمن عدم حلها في العراق نشوء كيان كردي شبه مستقل. يأخذ "النظام" في تركيا بيده وبسياساته الإنكارية البلاد إلى حل شبيه بالحل العراقي وربما أخطر على كيان لا يزال شعاره"يا لسعادة من يقول: أنا تركي"!