10 سبتمبر 2025

تسجيل

جدلية الإعلام والمجتمع المدني والوعي العام

08 سبتمبر 2018

انتشر في العقود الأخيرة مصطلح "المجتمع المدني" في الأدبيات العربية للتعبير عن القوى الاجتماعية المختلفة والمتعددة التي تنشط في المجتمع في إطار منظم بهدف تحقيق مطالب واحتياجات الجماعات التي تمثلها. يعتمد المجتمع المدني في أنشطته وتحقيق أهدافه على وسائل الإعلام للوصول إلى السلطة والفعاليات السياسية في المجتمع وطرح القضايا والمشكلات التي يواجهها السواد الأعظم من الشعب. والسؤال الذي يُطرح هنا هو إلى أي مدى تساهم وسائل الاتصال الجماهيري في الوطن العربي في نشر ثقافة المجتمع المدني، وإلى أي مدى تخدم وسائل الإعلام المجتمع المدني؛ ومن جهة أخرى إلى أي مدى يؤثر المجتمع المدني في وسائل الإعلام ويجعلها أدوات في خدمة المجتمع ووسائل للمراقبة والنقد والاستقصاء، وقوى مضادة تضمن التوازن داخل الآلة السياسية في المجتمع؟.. ومن هنا نتساءل عن ما هي الأدوار التي تلعبها المؤسسات الإعلامية في العالم العربي فيما يتعلق بالتوعية الأمنية والتنشئة الاجتماعية ونشر الوعي السياسي والثقافة الديمقراطية وثقافة الحوار والاختلاف والتعددية والتنوع والتوعية من أجل الحد من الآفات الاجتماعية كالجريمة والعنف والسرقة والمخدرات...الخ. العلاقة هنا جدلية بين المجتمع المدني ووسائل الإعلام، حيث إن المجتمع المدني يتأثر بوسائل الإعلام ويؤثر فيها من جهتها تتأثر وسائل الإعلام بالمجتمع المدني وتؤثر فيه. فكلما كان المجتمع المدني قويا وفعالا ومشاركا في مجريات الأحداث في المجتمع كلما فتح المجال واسعا أمام وسائل الإعلام لتغطية هذه الفعاليات والأحداث لتكون المؤسسات الإعلامية بذلك منبرا للحوار والنقاش من أجل القرار السليم والحكم الراشد. يلعب المجتمع المدني دورا استراتيجيا في مناقشة ومعالجة المشكلات والأزمات والآفات الاجتماعية والقضايا الأمنية، وكلما كان المجتمع المدني فعالا ونشطا ومراقبا لما يدور في المجتمع كلما كانت مساهماته في التكافل الاجتماعي وفي حل مشكلات المجتمع كبيرة وناجحة. ومن هنا، فإن مؤسسات عديدة في المجتمع بإمكانها المساهمة في التوعية الأمنية كالمدرسة والحي والمسجد والنادي الرياضي والكشافة والهيئات والاتحادات المختلفة التي تعنى بالشباب ومختلف الشرائح والفئات الاجتماعية وغيرها من الجمعيات والمنظمات في المجتمع. وهذا يعني أنه يجب إقامة تعاون منهجي ومخطط ومدروس بين الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام والمجتمع المدني من أجل إشراك الجميع في التوعية الأمنية وخلق الوعي بالقضايا ذات الأهمية، كل من موقعه وحسب طاقاته وإمكانياته، للنقاش والحوار واقتراح الحلول الناجعة والمساهمة في الحد منها والقضاء عليها. لقد ساهمت العولمة والثورة المعلوماتية والاتصالية والمجتمع الرقمي وانتشار الانترنت وانتشار التعليم وتوفر المعلومة والوصول إليها بسهولة في بلورة ونضج فكرة المجتمع المدني في العالم العربي. ومن هنا يتمثل دور المجتمع المدني في خلق توازن بين القوى الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية وبين الطبقات الاجتماعية. كما يعمل المجتمع المدني على خلق فضاء مستقل يفرز قيم العدالة والمساواة والحرية. فالمجتمع المدني هو فضاء للحرية، يتكون من شبكة العلاقات التي تقوم على الاختيار والاقتناع والحرية، حيث إنه يمنح الأفراد قدرة على النشاط الطوعي الحر. إذ يعمل المجتمع المدني على تنظيم العلاقات داخل تنظيمات مدنية تحقق استقلالا نسبيا عن الدولة من ناحية، وعن قوى السوق من ناحية أخرى. فالحياة المدنية هي الفضاء الطبيعي للعمل الحر الذي تنمو فيه قدرات البشر وإمكانياتهم على حب الاستقلال ونبذ التسلط والقمع. يستمد المجتمع المدني قوته من الثقافة المدنية التي تتمحور حول الحرية والمساواة والمواطنة، وهي في أساسها قيم عامة تتفرع عنها قيم تؤمن بالتفكير الحر الخلاق والفعل الحر المسئول والحرية التي تستمد قيمتها من مبدأ الفرد الأخلاقي الذي يؤمن بأن حريته تعني حرية الآخرين. وأن حرية الفرد لا تسمح له بالإنسلاخ من محيطه ومجتمعه وفضائه السياسي والاجتماعي والثقافي، ولا تسمح له بالإغتراب عن مبادئه وقيمه، حيث إن حريته مستمدة من حرية الآخرين والحرية الفردية هنا هي قيمة مثالية تنتهي إلى قيمة اجتماعية لا تقل عنها أهمية، وهي قيمة الترابط الجمعي التي تجعل الأفراد يتصرفون في إطار بيئة تضامنية عضوية تعبر عن روح الجماعة. فوسائل الاتصال الجماهيري في المجتمع هي التي تنقل ثقافة المجتمع المدني من مستوى الوعي الفردي والجماعي إلى مستوى الوعي العام. وبهذا تصبح الثقافة المدنية جزءا لا يتجزأ من وعي الأمة. هنا يتوجب على وسائل الاتصال الجماهيري أن تقدم خطابا إعلاميا هادفا يحمل في طياته قيما اجتماعية راقية تنبع من المجتمع وقيمه ومبادئه. فالمؤسسات الإعلامية إذن، مطالبة عبر البرامج الحوارية والدراما والأفلام والتحقيقات والأخبار، بطرح ومناقشة هموم وشجون المجتمع المدني ونشر ثقافته. وهذا يعني نشر مادة إعلامية هادفة من أجل التوعية الأمنية وللحد من الجريمة والسرقة وظاهرة إدمان المخدرات وغيرها بدلا من نشر المادة المعلبة المستوردة التي تنشر ثقافة العنف والجريمة والانجراف الأخلاقي والأمني. ما يُنشر في وسائل الاتصال الجماهيري هذه الأيام هو منتجات إعلامية معلبة مستوردة من الخارج تفرز انفصاما في شخصية الفرد العربي الذي يعيش واقعا مختلفا تماما عما يشاهده أو يستهلكه في المؤسسات الإعلامية العربية. فنشر ثقافة المجتمع المدني بحاجة إلى مؤسسات إعلامية ووسائل اتصال تؤمن بالمجتمع المدني وتؤمن بالمثقف العضوي وبالقيم المجتمعية الأصيلة. فالمشرف على المؤسسة الإعلامية والقائم بالاتصال يجب أن يؤمنا بالمجتمع المدني وبالثقافة المدنية وبرسالة يعملان من أجل تحقيقها لصالح المجتمع بأسره، وليس الركض وراء الإعلانات والربح السريع، أو العمل لمصلحة أصحاب النفوذ السياسي والمالي في المجتمع. فوسائل الاتصال الجماهيري هي التي تنتج الوعي الاجتماعي وهي التي تكرس القيم والعادات والتقاليد والنسق القيمي والأخلاقي في المجتمع، ومن ثم فهي مطالبة بنشر ثقافة المجتمع المدني وثقافة الوعي الاجتماعي بالقضايا الأمنية. المؤسسات الإعلامية هي الأدوات التي تنمي الثقافة المدنية وتعمل على نشرها وتقويتها والتصدي لثقافة العنف والتطرف والإقصاء والفردية والمادية ورفض الآخر والسلوك المنحرف والجريمة والسرقة والإرهاب ومختلف الآفات الاجتماعية الأخرى. فوسائل الاتصال الجماهيري هي الحليف الاستراتيجي للمجتمع المدني وهي الوسيلة الفعالة والأداة اللازمة لتحقيق مبادئه وقيمه في المجتمع. فمضمون وسائل الاتصال الجماهيري هو الغذاء الروحي والفكري والعقلي للثقافة المدنية وأداء هذه المؤسسات في المجتمع يعتبر سلوكا مدنيا يدعم المجتمع المدني والثقافة المدنية. فالمجتمع المدني هو وعي وثقافة وقيم ومبادئ تٌترجم إلى سلوك وعمل يومي يؤمن بروح الجماعة والمصلحة العامة. ما هي القيم والوعي والأفكار التي تقدمها الفضائيات العربية للمواطن العربي؟ ما هي الإضافات الفكرية والثقافية التي تقدمها هذه الفضائيات للمشاهد العربي؟ أم أن هناك فجوة خطيرة جدا بين الواقع الذي يعيشه المواطن العربي وما يُنقل له ويشاهده عبر القنوات الفضائية المختلفة؟. يرى عدد من النقاد والباحثين أن ضعف أداء وسائل الإعلام في المجتمع يعود بالدرجة الأولى إلى ضعف المجتمع المدني انطلاقا من مبدأ أن الإعلام هو مرآة عاكسة للوسط الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي الذي يوجد فيه ويتفاعل معه. فإذا كان المجتمع المدني ضعيفا فهذا ينعكس سلبا على أداء المؤسسات الإعلامية في المجتمع، فالإعلام القوي والفعال لا ينمو ولا يتطور ويزدهر إلا في مناخ الديمقراطية والحرية والرأي والرأي الآخر ووجود القوى المضادة والفاعلة في المجتمع، التي تراقب وتنتقد وتعمل من أجل مشاركة الجميع في تحقيق المساواة والعدالة في المجتمع وفي جعل كل فرد في المجتمع مسئولا وواعيا وحرا. ما زال العالم العربي يعاني من فجوة كبيرة بين الشارع والوسيلة الإعلامية كما أنه يعاني من ضعف المجتمع المدني الذي ما زال عاجزا عن التفاعل مع الشارع العربي والمؤسسات الإعلامية العربية بطريقة إيجابية وفعالة. من جهة أخرى نلاحظ أن المنظومة الإعلامية في العالم العربي تعاني من التبعية والاغتراب والانسلاخ وابتعادها عن الشارع العربي وهمومه ومشاكله، بل نجدها في خدمة السلطة وأباطرة السياسة والمال.