15 سبتمبر 2025
تسجيلتظاهر يوم الأربعاء الماضي العشرات من الأشخاص وسط العاصمة التونسية من حركة «لا لن نسامح»، التي تكونت إثر الإعلان عن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الجديد، الذي اقترحه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، في 20 مارس الماضي، وتبنته الحكومة التونسية في 14 يوليو الماضي، وأحالته لمجلس النواب للمصادقة عليه، ورفضته المعارضة ومنظمات غير حكومية وبعض الهيئات، والمؤيدون لها ممن رفضوا القانون، مرددين هتافات «لا للمصالحة مع الفاسدين» و«لا.. لن نسامح»، محذرين من القانون الذي تطغى عليه الرغبة في تبييض الفساد والإفلات من العقاب، وعدم ضمان تكرار جرائم الفساد بل يشجع على مزيد من الفساد. وتقدم الوزير مدير الديوان الرئاسي رضا بالحاج إلى واجهة الأحداث، حين شارك في ندوة أقامتها دار الصباح في نهاية شهر أغسطس الماضي، ليدافع عن مشروع رئاسة الجمهورية حول المصالحة الاقتصادية والمالية. فقال إن النص القانوني تم طرحه لإنجاح مسار العدالة الانتقالية في مجال الانتهاكات المالية، ولتحسين مناخ الأعمال والتشجيع على الاستثمار وتسوية الوضعيات العالقة وتعبئة موارد الدولة من العملة الصعبة.انكماش الوضع الاقتصادي في تونس له أسباب خارجية مثل المناخ الاقتصادي الدولي وبينها الاستثمار الخارجي.. لكنه مرتبط كذلك بعوامل داخلية من بينها تأثر الوضع الاقتصادي جراء «انكماش» الإدارة وكبار الموظفين والمستثمرين التونسيين.وقد تبين أن التتبعات القضائية لآلاف الموظفين العموميين خلال 5 أعوام أضعف مردودية الإدارة والموظفين وقلل من فرص المبادرة لديهم وهم يلاحظون أن زملاءهم يتعرضون «للهرسلة» لمجرد تأشيرهم على عقود أو محاضر أو إمضائهم صفقات في سياق مسؤوليتهم الإدارية وتطبيقا لتعليمات صدرت لهم أي أنهم لم يسرقوا ولم يحصلوا على رشاوى.. وهؤلاء ينطبق عليهم الفصل 2 من مشروع قانون المصالحة الاقتصادية. ويقدر العدد الإجمالي لهؤلاء الموظفين السامين والمسؤولين السابقين في الإدارة الذين سيشملهم قانون المصالحة بحوالي 7 آلاف موظف سام ومسؤول وطني وجهوي والأبحاث متواصلة وقائمتهم ستطول. وهؤلاء جميعا ليس بينهم من تورط في الارتشاء والفساد لكنهم عرضة للتبعات بسبب تطبيق تعليمات سياسية وإدارية وينطبق عليهم الفصل 96.. ويقدر من يعتبرون «متهمين» بــ 300 والبقية «شهود» التحقيق مفتوح معهم وقد يتطوّر.. البعض من هؤلاء قام بأفعال ـ مثل التوقيع على عقود أو محاضر جلسات ـ وبعضهم مجرد شهود.. وغالبيتهم في وزارات أملاك الدولة والوزارة الأولى وقعوا أو شاركوا في صياغة عقود. ونتيجة التتبعات التي تشمل هؤلاء فإن زملاءهم حاليا متخوفون من أي مبادرة وأصبحوا يساهمون في «شلل» الإدارة وهو ما ينعكس سلبا على التنمية وفرص الاستثمار والادخار والتشغيل والتنمية الجهوية.ولا علاقة لهؤلاء الموظفين ـ الذي قد يرتفع عددهم ـ بالموظفين «الذين استفادوا» أو اتهموا بالرشوة والذين يشملهم الفصل الثالث من مشروع قانون المصالحة الاقتصادية مثلهم مثل رجال الأعمال «المستفيدين» والذين فتح لهم المشروع باب تسوية وضعيتهم القانونية عبر مسار صلح قانوني مالي.. ووضعية هؤلاء تختلف عن وضعية عائلة الرئيس الأسبق بن علي الذين صودرت أملاكهم ولديهم ملف خاص.أما بالنسبة للذين خالفوا «قانون الصرف» ولديهم أرصدة بنكية غير قانونية وأملاك غير مصرح بها في الخارج، فقد خصص الفصلان 7 و8 من مشروع القانون لهذه الفئة أي لرجال الأعمال الذين لديهم مصالح وممتلكات وأموال في الخارج بصفة غير قانونية.. ونعتقد أن إقرار قانون لتسوية وضعياتهم سيساهم في إرجاع مناخ الثقة وتدفق أموال على تونس وعودة مستثمرين للاستثمار في بلدهم.وبالمقابل، يقول الأكاديمي حسين الرميلي والعضو البارز بالجبهة الشعبية، بأنه صدم من مشروع قانون المصالحة، لأن المطلوب كان إصلاحات هيكلية في 3 أو 4 محاور أساسية يشعر من خلالها الشعب بتغيير حقيقي بعد سنوات قليلة. أما أن يكون القانون من أجل العفو على «الفاسد» فإن هذه النماذج ستكون مثالا سيئا لبقية الموظفين .فالإدارة التونسية تحتاج اليوم إلى ثورة لضرب المنظومة البيروقراطية بما يضمن عدم عودة منظومة الفساد، لأن الاستبداد يعتمد على البيروقراطية والفساد ومنح الامتيازات للذين يطبقون التعليمات. وكل هذه المعطيات تجعلنا نؤكد أن مشروع قانون المصالحة جاء خارج السياق .ثم إنه لم يتضمن بعض الأرقام تجعلنا مثلا على يقين من تخفيض العجز في الموازنة بنسبة 40 بالمائة وغيرها مما قد يدفعنا إلى قبوله رغم تحفظاتنا عليه. فالمشكلة ليست في 7 آلاف موظف يتعرضون إلى مضايقات وإنما في المنظومة التي تهيئ الموظف للرشوة والفساد إضافة إلى تبييض رجال الأعمال الفاسدين ومنحهم الأراضي بالمليم الرمزي ليتم بيعها بعد ذلك بالمليارات. فإذا قمنا بإصلاحات هيكلية يمكننا بلوغ نسبة نمو سنوية بـ 4 و5 بالمائة خلال السنوات القادمة باعتبار أننا نعاني اليوم من إعاقة في البنية التحتية ومشروع ميناء النفيضة انطلق بالتوازي مع ميناء طنجة بالمغرب لكن ميناء طنجة انطلق في العمل ومشروع ميناء النفيضة مازال في الرفوف بسبب الترسانة البيروقراطية التي يتحتم اليوم الثورة عليها وتغييرها.إن أولويات التونسي اليوم توفير الشغل والمقدرة الشرائية التي تدهورت بشكل كبير وغيرها من الملفات الحارقة التي تتطلب برنامج إصلاح هيكلي متكامل. أما أن نحول اليوم الوجهة من أجل 40 أو 50 رجل أعمال فهذا غير مقبول ولا معقول. فالشعب التونسي على يقين أنهم لن يكونوا رأس مال وطنيا باعتبار أن أموالهم متأتية من السرقة، فكيف يفسح لهم في المجال لتبييضهم بما يعبد الطريق لعودة منظومة الفساد. وما دمنا لم نغير المنظومة والقوانين ونعمل على إصلاح حقيقي فإننا سنهيئ المناخ لعودة الفساد من جديد. بالنسبة للغالبية من التونسيين، فإنهم يرون أن مشروع المصالحة الاقتصادية والمالية يتنافى مع مسار العدالة الانتقالية التي نص عليها الدستور ولهيئة الحقيقة والكرامة التي تشكلت للإشراف على مسار العدالة الانتقالية ببعديها السياسي والاقتصادي مثلما نص على ذلك القانون الذي أحدثها وتحديدا الفصل 53.فهذا المشروع يُعَّدُ ضرباً لهيئة الحقيقة والكرامة واعتداء عليها وعلى صلاحياتها وخاصة على صلاحيات لجنة التحكيم والمصالحة التابعة لها. فمن بين مشمولات هيئة الإشراف على مسار العدالة الانتقالية كشف الحقيقة ومحاسبة الفاسدين وإيجاد ضمانات عدم العودة إلى ما وقع في عهد الديكتاتورية والفساد قبل الثورة ونحن نعترض على «قطع الطريق» وإعلان مصالحة سابقة لأوانها مع متهمين بالفساد ومخالفة القوانين وإن نفذوا تعليمات تحت الضغط دون التورط مباشرة في السرقة والرشوة.ثم إن مشروع القانون هذا سيحصن قانونيا من شاركوا في الفساد وانتهاك قواعد الحوكمة الرشيدة واستولوا على أراض وأموال عمومية وإن كانوا مأمورين. ونحن نشدد على ضرورة البدء بمحاسبة هؤلاء وكشف عمن أعطاهم الأوامر. وبالنسبة لرجال الأعمال المعنيين بهذا المشروع ـ الذي قدمه رئيس الدولة وزكته الحكومة ـ والذين يقر نصه بتجاوزاتهم ومخالفاتهم فإن إعلان التصالح معهم قبل محاسبتهم سيعني بالنتيجة مكافأة مجموعة من الفاسدين الذين مولّوا الحملات الانتخابية السابقة للأحزاب والأطراف السياسية الفاعلة حاليا في مؤسسات الدولة. وفي سياق هذا الرفض لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، دعت «منظمة الشفافية الدولية» البرلمان التونسي لعدم المصادقة عليه، وحذرت من الفساد واختلاس المال العام في حال تمريره، على عفو بحق من كان لهم أفعال تتعلق بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، وإمكانية الصلح مع رجال الأعمال الذين تورطوا في قضايا فساد مالي، وتشكيل لجنة مصالحة برئاسة الحكومة للنظر في مطالب الصلح. واعتبرت منظمتا «الشفافية الدولية» و«أنا يقظ» التونسية لمكافحة الفساد، أنه يجب على البرلمان التونسي رفض مشروع هذا القانون بصيغته الحالية، حيث يشكل تدخلا صارخا في عمل السلطة القضائية وانتهاكا جسيما لقيم المساءلة والشفافية المكرسة في الدستور التونسي، وسيشجع كل من تسول له نفسه على اختلاس المال العام في المستقبل. وقال رئيس منظمة الشفافية الدولية، خوزيه أوغاز، إن قانون المصالحة سيميع مفهوم الحقيقة والكرامة، حيث سيخول لكبار المتحايلين الذين كدسوا الثروات تحت لواء الديكتاتور السابق، زين العابدين بن علي، التهرب من العدالة مقابل ضخ بعض ما حققوه بطرق غير مشروعة في عجلة اقتصاد البلاد، ولن يزيد ذلك الفاسدين إلا سطوة ونفوذا. وفي سياق هذا الجدل المثير الدائر في مختلف الأوساط السياسية الرسمية والشعبية في تونس حول مشروع المصالحة الاقتصادية الذي كانت رئاسة الجمهورية تقدمت به، بين الأكثرية السياسية المتسلحة بنتائج الانتخابات والتي ترى أن بإمكانها، بلغة الحسابات، تمرير مشروع قانون المصالحة هذا، وربما بسهولة أيضا، وبين المواقف السياسية المعارضة لهذا المشروع جملة وتفصيلاً والمستندة إلى الحراك الشعبي، هناك موقف وسطي براغماتي، يجسده الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يمثل العمود الفقري للمجتمع المدني التونسي، القادر أن يقف نداً للحكومة، فهو من حيث المبدأ مع المصالحة الوطنية ومع تخصيص آلية للمصالحة الاقتصادية يمكن أن لا تقترن بالضرورة بالمسار السياسي والحقوقي، ولو أن البعض يستغرب هذا الموقف، لكن النقابات مع المصالحة وفق مسار العدالة الانتقالية.