15 سبتمبر 2025
تسجيلبدأت تدريجياً تنتشر في مجتمعاتنا مصطلحات من قبيل العقول المنفتحة أو كما تُلفظ بالإنجليزية " أوبن مايندد open minded "، للإشارة إلى أن من يُطلق عليه ذلك الوصف، إنسان متحضر يعيش زمانه. هكذا فريق أول يرى المصطلح، فيما آخر يراه بشكل سلبي، وأنه يوصف به الإنسان المنفلت عن دينه وثقافته وتقاليده.. إن جئنا نتعمق في الموضوع بعض الشيء، فمن المناسب أولاً أن نتعرف على رأي من جاء المصطلح من لدنهم وانتشر هنا وهناك. فقد جاء في قاموس كمبردج البريطاني أن العقل المنفتح أو open minded هو حين تنتظر لتعرف كل الحقائق قبل تكوين رأي أو إصدار حكم. وجاءت تعريفات أجنبية كثيرة لهذا المصطلح من قبيل أنه امتلاك عقل منفتح على الأفكار الجديدة؛ دون تحيز أو تعصب. وتعريف آخر هو الاستعداد للنظر في الأفكار أو الآراء الجديدة والمختلفة، أو هو تقبل الأفكار الجديدة أو آراء الآخرين المختلفة. لا يهمنا كثيراً التعمق في تعريفات الآخرين من غير ثقافتنا وديننا، فالمقصد ها هنا بحث هذا المصطلح وفق رؤيتنا وثقافتنا العربية الإسلامية ضمن ديننا الحنيف الشامل، باعتبار أننا عرب مسلمون، لنا رؤيتنا وتاريخنا وثقافتنا الأصيلة، والمفترض أن نحافظ عليها ونذود عنها أمام تيارات فكرية وثقافية متنوعة تجتاح العالم كله، وليس عالمنا العربي الإسلامي فقط. جيل الإنترنت الشاب، هو المعني بهذا الأمر أكثر من أجيال ما قبل النت. هذا الجيل الذي نشأ في فترة الانفتاح على العالم التي سُميت بالعولمة، أو الأمركة - إن صح التعبير – هو المعني في موضوع اليوم، نظراً لضحالته الفكرية والثقافية. فهو منذ أن بدأ يعي ما حوله، وهو يعيش في عالم الإنترنت مع وسائل التواصل والإعلام الحديثة المتنوعة المتجددة. يتأثر أكثر مما يؤثر. انهالت وما زالت تنهال عليه، ملايين المعلومات والأفكار، والمفاهيم، والمصطلحات، وغيرها. وقد يكون وعى القليل منها، لكن المؤكد أنه تأثر وانسجم واندمج مع الكثير منها، حتى تأثرت شخصيات أفراد هذا الجيل وأساليب حياتهم وأنماط تفكيرهم ورؤيتهم لأنفسهم ومن حولهم من الناس والأشياء. تسطيح العقول الفتاة التي تحاول التحرر من بعض القيود الاجتماعية وبعض الضوابط الدينية في علاقاتها مع الناس وتعاملاتها في المجتمع، ينظر لها كثير من هذا الجيل الشاب أنها صاحبة عقل منفتح أو Open minded فيما عكسها توصف بأنها منغلقة ومعقدة ومن جيل قديم لا يتطور أو Closed minded، وبالمثل تكون النظرة للشاب الذي يرى فارق السن بينه ووالديه من عوائق انطلاقه واندماجه مع المجتمع، أنه صاحب عقلية منفتحة ويحتاج الدعم ضد منغلقي الفكر كوالده أو والدته !! والأمثلة أكثر من أن تسعها هذه المساحة. ولا أشك أنكم سمعتم وقرأتم وعايشتم مثل هذه المواقف وتلكم الشخصيات. صار الاهتمام بكل ما يعاكس ويناقض أعراف المجتمعات المحافظة وتقاليدها وعقيدتها، والتهليل لقشور التمدن والمظهريات المادية، من علامات العقليات المنفتحة واجبة الدعم، وأي محاولات لتوعية المجتمعات بهلامية تلك القشور والمظهريات الجوفاء الخاوية، هي نوع من انغلاق العقل واجب التصدي له وضرورة تطويره، أو هكذا واقع الحال. هذا ما يمكن تسميته بتسطيح العقول. هذا التسطيح الذي بدأ يقوى وينتعش منذ أن بدأت تظهر وسائل التواصل المختلفة، وسهولة الوصول إلى أركان المعمورة بأقل وأسهل الإمكانيات والتكاليف، والتأثير البالغ الملحوظ لها. التسطيح الذي أعنيه، هو ذاك الاهتمام بالقشور في الموضوعات والقضايا، أو النظر إلى الأمور بنظرة سطحية، وترك اللب أو الغوص في الأعماق. وهي ثقافة يقوم عليها كثيرون، ويؤكدون عليها ويحرصون على تعزيزها، سواء كانوا على شكل أفراد، أم مؤسسات، أم أحياناً دول بذاتها. وهذا يؤكد خطورة ما يحدث ووجوب التصدي لعمليات تسطيح العقول، بنفس الأدوات والأساليب المتبعة، قبل أن تتعمق وتتعقد وتنتشر تلك العمليات، فإن نتائج عمليات تسطيح وتسفيه العقول مخيفة، وما مظاهر التفسخ التدريجي دينياً واجتماعياً وأخلاقياً سوى بعض أمثلة، وما خفي ربما أعظم. كيف يؤثر الإعلام علينا نفسياً ؟ صناعة تسطيح العقول هي واحدة من عشر استراتيجيات تحدث عنها المفكر الأمريكي " تشومسكي " في معرض إجابته على سؤال: كيف يؤثر الإعلام علينا نفسياً، فكانت إجابته عبارة عن عشر استراتيجيات يسلكها الإعلام الموجّه، من أجل إحداث تأثيرات نفسية وفكرية على الجمهور الأعظم المتابع لتلك الوسائل، وكانت صناعة تسطيح العقول إحداها. اليوم وبفعل وسائل الاتصال والتواصل من فضائيات وإنترنت وغيرها، تسارعت عجلات ثقافة التسطيح بين البشر، حيث تقوم وسائل إعلامية بدور عظيم وغاية في الخطورة في نشر تلك الثقافة وتناول الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصورة سطحية هزيلة. وعلى رغم القوة الهائلة لشبكة الإنترنت للقيام بدور الضد لهذه الثقافة وبيان الحقائق أولاً بأول، إلا أن الملاحظ هو تزايد أعداد من تتسطح ثقافتهم يوماً بعد يوم، لا سيما في القضايا المصيرية العظيمة، وشواهد ذلك كثيرة حولنا يمنة ويسرة. عملية التسطيح يمكن رؤيته عبر قيام مؤسسات رسمية ووسائل إعلامية تساندها، بنشر الثقافة الضحلة الهزيلة، والاحتفاء بأقلام وكتّاب ضحلين وتسليط الأضواء عليها، وتجاهل أصحاب الفكر والعقل وبُعد النظر، لكي ينشأ بعد حين من الدهر قصير، جيل تكون قدوته تلك العقول الهزيلة. ولقد ساعدت وسائل التواصل المتنوعة - كما أسلفنا - على ظهور فقاعات إعلامية بشرية، صارت هي الأخرى تلعب دوراً في عملية التسطيح هذه. وما يزيد الطين بلّة، أنها تنشط وتتمدد بمباركات ومتابعات شعبية غوغائية وأحياناً رسمية مرتبة مُحكمة ! الإسلام دين الانفتاح ديننا دين الانفتاح على الآخر لو فهمه الناس حق الفهم. إنه لا إكراه في الدين. لا أحد يجبرك أن تكون مسلماً. وحين يجتمع مسلم مع غيره من الملل الأخرى، فهذا لا يعني ألا يستمع إليه وينظر ما لديه، ويتحاور معه. يستفيد كل منهما من الآخر، ولكن كل أحد وفق ضوابطه الدينية والثقافية والاجتماعية. هكذا ينظر المسلم لمسألة الانفتاح. السبب الذي جعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ودوماً نكرره، هو انفتاح المسلم على الآخر. دينه يدعوه إلى ذلك ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ). هذا التعارف يزيد ويوسع أفق المسلم، بل لا شيء يُخشى منه عليه، طالما أن إيمانه راسخ في قلبه متمكن منه، وعقيدته صحيحة لا تشوبها شائبة، ويعرف الحدود بين الحلال والحرام وما بينهما من أمور مشتبهات، فلم الخوف بعد كل هذا من الآخر؟ لكن التخوف من الحاصل الآن في العالم، سببه - كما قلنا آنفاً - ظهور جيل هش مجوف، أو فارغ من العلم والإيمان، أمام سيول عارمة من التيارات الفكرية والثقافية الضحلة المنحلة، تجرف كل شيء أمامها، ما لم يكن صلباً ثابتاً راسخة جذوره في أعماق الأرض. وحين رأى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - عمر الفاروق وبيده نسخة أو صفحات من التوراة، شد عليه في الكلام وقال:" أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب – أي أمُتَحَيِّرون أنتم في الإسلام حتى تأخذوه من اليهود – ثم قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاءَ نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتّبعني". هذا الحديث كان في بداية تكوين وتربية الجيل المؤمن، الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - متمكناً راسخاً لا يخالط مراحل تربيتهم وتكوينهم شيء من خارج الإسلام. حتى إذا تمكن الصحابة من دينهم، سمح لهم النبي - صلى الله عليه وسلم – لاحقاً، الانفتاح على الآخرين، كما في الحديث الذي رواه البخاري:" بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار". الانفتاح له ضوابطه خلاصة ما أروم إليه: أنه لا شيء في الانفتاح على الآخر، ولكن وفق ضوابط. منها ألا يكون على حساب الدين، فيكون الانفتاح سبباً في خلخلة العقيدة والتي قد تؤدي إلى تشويش وفوضى مؤدية إلى نقطة ( لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء )، والأسوأ هو الوصول إلى الإلحاد. ثم لا يجب أن يكون الانفتاح على حساب الهوية، فينسلخ المرء بفعل الانفتاح غير المنضبط على الآخر من فكره وثقافته وعاداته، فيكون مسخاً لا يُعرف له هوية أو سمة تميزه. العقلية المنفتحة لا تعني التفسخ وتقليد الآخر في مأكله وملبسه ومشربه وعاداته، بحجة التحضر ومسايرة الواقع في العالم. لا، العقلية المنفتحة هي التي تجعل المرء صاحب قدرة على فهم واستيعاب ما يرد إليه من خير الغير أو شره، فيأخذ الخير ويدع الشر أو يصده ويمنعه عن نفسه وغيره. لا نريد أن يدخل هذا الجيل جحر ضب كريه نتن سيء التهوية، فقط لأن الآخر القادم من وراء البحار، دخله ! لا نريد أن يكون هذا الجيل جيشاً من الإمّعات، ولا نريده أن يكون هو من تحدث عنه الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – حين قال:" لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا يا رسول الله: آليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ نحن المسلمين في غاية التفتح الذهني، أو العقلية المنفتحة على الآخر لقبول أي شيء " مفيد "، سواء كان من الشرق أو الغرب. لكن في الوقت ذاته، لابد أن نكون بالمرصاد لكل ما يشوش علينا فكرنا، ويبعث الفوضى على أعمالنا، ويفسد علينا ديننا.. والله بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [email protected]