05 أكتوبر 2025

تسجيل

ديمقراطيا وليبراليا: ما حدث انقلاب وعواقبه وخيمة

08 يوليو 2013

ابتداء، لا بد من القول إن إبداع الشباب المصري في تنظيم حركة "تمرد" كان مُدهشا بكل المعايير. وإنه أدخل وعبر الملايين التي استطاع حشدها في زمن قياسي آلية جديدة في العمل الشعبي والجماهيري. وأنه أثبت من ناحية ثانية أن الشريحة الشبابية في الوطن العربي هي مخزن هائل للأفكار والحراك الخلاق. "تمرد" أصبحت شبه نظرية يريد شباب آخرون في البلدان العربية من المغرب. إلى تونس. إلى فلسطين تبنيها وتطبيقها. ولا بد من القول أيضاً أن حكم الإخوان المسلمين في مصر تخبط من فشل إلى فشل وقد وفر وقودا متواصلا للمعارضة الشبابية والجماهيرية العريضة كي تستكمل مشروعها الاحتجاجي الكبير. وكان ذلك الفشل في طريقه لخدمة المسار الديمقراطي ليس في مصر وحدها بل وفي العالم العربي برمته (بما في ذلك تحجيم تيارات الأسلمة السياسية ودمقرطتها ودفعها إلى مربعات الواقعية). بيد أن ما حدث في مصر من تدخل للجيش أدخل ذلك المسار في نفق مجهول وأضاع فرصة تاريخية لعملية الدمقرطة العربية. وفي أحسن التقديرات أعاقها وبطأ من وتيرتها. الديمقراطية العربية كانت ولا تزال تواجه عائقين كبيرين في المنطقة هما الأنظمة المُستبدة والإسلام السياسي. والإنجاز الهائل للربيع العربي تمثل في إسقاط العائق الأول في عدد من البلدان. وهو عائق ثبت بعد عقود طويلة من الدكتاتورية أنه صلب ومتجذر ولم يكن بالإمكان مواجهته إلا عبر ثورات شعبية. أما العائق الثاني. الإسلام السياسي. فلم يكن من الممكن إزاحته. أو عقلنته ديمقراطيا. إلا عبر التجربة الديمقراطية نفسها. باستثناء الحالات التي سيطر فيها الإسلامي عبر أدوات مستبدة مثل الحكم في السودان الذي وصل إليه عبر الانقلاب العسكري. في بلدان الربيع العربي التي وصلت فيها حركات الإسلام السياسي إلى الحكم عبر الانتخابات توفرت فرصة تاريخية لتجاوز العائق الثاني ديمقراطيا وسلميا ومدنيا. يقوم هذا التقدير على قناعة وحقيقة أثبتتها تجارب البشرية خاصة في القرون الأخيرة تقول إن إقحام الدين في السياسة مآله الفشل. لأن فيه تشويه للدين وإفساد للسياسة. لن تنجح أية حركة إسلامية في العالم المعاصر في حكم أي بلد من البلدان لأن تعقيدات الحكم والمجتمعات والاقتصاد والعلاقات الدولية لا تحتمل وجود منظومة دينية على رأس الحكم. ذلك أن الدين. أي دين. هدفه الهداية وليس السياسة ويقوم على يقينيات وقناعات بين "حق" و"باطل". بينما تقوم السياسة على مساومات وتعقيدات ومناورات وأنصاف حلول بما فيها الخداع والكذب أحيانا وهي أمور لا يحتملها الدين. بيد أن هذه المقولات النظرية ما كان لها أن تصبح قناعات واسعة عند جمهور الناخبين من دون تجارب عملية. في العالم العربي برز الإسلام السياسي. ولأسباب كثيرة وتاريخية. بكونه "المخلص". سيما وهو يرفع شعارا جذابا وفعالا: "الإسلام هو الحل". مرة أخرى. تجارب الإسلاميين في الحكم بعد الربيع العربي كانت كلها تقول إن "أسلمة السياسة" لا مستقبل لها. بل إن التجربة الأكثر نجاحا. خارج المنطقة العربية. وهي تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا. بدأت تتخبط الآن فور أن انحدرت إلى مسار "أسلمة السياسة". بقيت تلك التجربة ناجحة في مرحلة استثمارها وبنائها على ما كان قائما من دولة مدنية ومؤسساتية. ونجحت أكثر عندما ركزت على سياسات الخدمات والاقتصاد. وعندما أراد أردوغان توظيف النجاحات الخدمية والاقتصادية في مشروع أسلمة الدولة والمجتمع ثارت في وجهه شرائح عريضة. وما لم يتراجع عن نزعة التأسلم والمدفوعة بعجرفة سلطانية فليس من المُستبعد أن تتسع حركة "تمرد" التركية هناك. استنادا على ما سبق يمكن تسجيل عدة ملاحظات حول ما حصل في مصر. الأولى متعلقة بالآليات الديمقراطية في مواجهة رئيس منتخب. الآلية الأهم في محاولة تغيير أو إسقاط رئيس منتخب هي الانتخابات. وفي حال ابتعاد موعد الانتخابات عن لحظة اتساع نطاق المعارضة الشعبية تصبح الانتخابات المبكرة هي الحل. وإلى هنا كان مطلب "تمرد" شرعي وديمقراطي ومُحق. وكان بالإمكان مواصلة الضغط على الرئيس مرسي والإخوان للوصول إلى تلك الانتخابات. ولم يكن من الضروري الاستعجال بتدخل الجيش وهو التدخل الذي أنهى الممارسة الديمقراطية. كل الذرائع التي يوردها هنا مؤيدو تدخل الجيش فيها وجاهة قوية لكنها ليست كافية لتبرير ذلك التدخل. والقول إن الجيش تدخل حتى ينفذ الإرادة الشعبية. أو شرعية الشارع. والملايين الذين خرجوا ضد مرسي تدخلنا في نفق مجهول. وهذه هي الملاحظة الثانية. ذلك أن الاحتكام إلى "شرعية الشارع" عوضا عن الشرعية الانتخابية معناه وضع هاتين الشرعيتين ضد بعضهما البعض. وجوهر العملية الديمقراطية يقع هنا بالضبط أي في تقنين شرعية الشارع في إطار الشرعية الانتخابية. بخلاف ذلك. وكما حصل في مصر. نصل إلى مأزق كبير مفاده أن خروج الشارع ضد رئيس يتمتع بالشرعية الانتخابية يبرر للخارجين إسقاطه. وتطبيقا لذلك. وفي الحالة المصرية. ماذا لو افترضنا نظريا أن الإخوان استطاعوا أن يحشدوا "شارعهم" مع مؤيديهم بما يفوق حشد "تمرد"؟ هل يشرعن ذلك لعودتهم للحكم. أو حتى لـ "تمردهم" على أي حكم مستقبلي يكون منتخبا؟ صحيح أن شعبية الرئيس مرسي وصلت إلى الحضيض وربما كانت الأغلبية تريد إسقاطه. لكن هذا وضع معروف في معظم الحالات الديمقراطية. أي رئيس منتخب يفقد كثيرا من شعبيته بعد انتخابه. في فرنسا اليوم وصلت شعبية الرئيس هولاند إلى 24% أي أقل من ربع الفرنسيين. وهناك مظاهرات واحتجاجات شبه يوميه ضده. فهل هذا يبرر خلعه أو تدخل الجيش الفرنسي لإسقاطه؟ الملاحظة الثالثة تتعلق بأخونة الدولة ومحاولة الإخوان السيطرة على مفاصلها. وأن بقاء مرسي في الحكم يعني مزيدا من تلك الأخونة. وهذا تخوف مشروع لكنه مُبالغ فيه. في العصر الحالي. حيث انفجار الثورة الإعلامية والتي يوجد فاعلوها في جيب كل مواطن. عبر أجهزة الهاتف النقال والكاميرات. فضلا عن الفضائيات وسواها. لم يعد بإمكان أي حاكم على وجه الأرض القيام بما يحلو له بمطلق الحرية كما كانت الأمور إلى وقت قريب. كل قرار اتخذه مرسي كان موضع تمحيص ونقد ونقاش إعلامي ليس في مصر وحدها بل وخارجها. كما أن الكل يعلم أن القرارات التي اتخذت بالإمكان إلغائها في أول فرصة. ولا يمكن أن تغير من وجه مصر. لم يستطع مرسي وحركته الحد من فاعلية الشعب المصري. ناهيك عن أخونته أو السيطرة عليه. بدليل نمو واضطراد حركة "تمرد" ذاتها. ولم يستطع أن يسيطر على الإعلام أو يحد من فاعليته. الملاحظة الرابعة تتعلق بإقحام الجيش في السياسة وتوكيله الإشراف على العملية الانتقالية. وهي خطوة في المجهول ونحو رمال متحركة. نتمنى أن يكون هذا الإقحام قصير المدى ويرجع الجيش إلى ثكناته. لكن إغراء السياسة يطيح بكل النظريات والتعذر بمصلحة البلد والحفاظ على الأمن والاستقرار كان دوما الذريعة الأقصر لدوام الاستبداد. ولدوام حكم العسكر في كل مكان. الملاحظة الأخرى. وبالتأكيد ليست الأخيرة في هذا النقاش. متعلقة بالتخوفات والعواقب التي قد تكون وخيمة جراء هذه الخطوة. مهما حاولنا نفي التشابه بين ما حدث في مصر وما حدث في الجزائر في أوائل التسعينات من القرن الماضي عندما تدخل الجيش هناك وقطع الطريق على الإسلاميين يبقى هناك تشابه جوهريا لا مناص عنه. ونعرف جميعا أن خطوة الجيش الجزائري قادت إلى حرب أهلية طاحنة أكلت عقدا من السنين وكان ضحاياها مئات الألوف من الجزائريين. من يضمن فلتان الشباب الإسلامي الغاضب ولجوءهم إلى العنف. وانشقاق شرائح من الإخوان المسلمين وانضمامهم لدعوة الظواهري الذي يفرك يديه فرحا الآن لأن "جبهة مصر" فُتحت أخيرا أمامه. حيث لن تنقصه الذرائع ولا المسوغات بعد الآن؟