13 سبتمبر 2025
تسجيلمن الكتب التي تعنى بعلم المتشابه، كتاب درة التنزيل وغرة التأويل، للخطيب الإسكافي، الذي حاز ثناء كبيراً من العلماء، ومنهم ابن عباد، الذي قال: "فاز بالعلم من أصبهان ثلاثة: حائك، وحلاج، وإسكاف، فالحائك هو المرزوقي، والحلاج أبو منصور ابن ماشدة، والإسكافي أبو عبد الله الخطيب بالري، صاحب التصانيف في اللغة".. والخطيب الإسكافي صاحب مؤلَّفِنا الذي نعرض إلى منهجه، توفي سنة 426 هـ ولست بصدد ترجمته، وإنما أنا معني بيان منهجه، في تناول متشابه القرآن الكريم؛ حتى ننطلق في هذه التأملات إلى تصور جديد لفهم هذه المتشابهات.أولاً: اعتمد الخطيب على تبويب سور القرآن منهجاً، فهو يبدأ بالبقرة ثم آل عمران وهكذا، وينظر ما يشابه الآية من السورة نفسها، ثم ما يشابه الآية من السور الأخرى.ثانياً: يعتمد الخطيب على تحرير موطن التشابه، ثم تفكيك المعنى، بحيث يحلل كل وجه في سياقه، ثم يعقد المقارنة بعد ذلك؛ ففي قوله تعالى: "واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، ولا هم ينصرون" [البقرة: 48].وفي السورة نفسها يقول تعالى: "واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة، ولا هم ينصرون" [البقرة: 123]. فقدم في الأولى قبول الشفاعة، على أخذ الفدية، وفي الثانية قبول الفدية على نفع الشفاعة. والوجه في الأول: أنه لما قال: "لا تجزي نفس عن نفس شيئاً" بمعنى: لا يغني أحد عن أحد فيما يلزمه من العقاب،ولا يكفر سيئاتِه ما له من الثواب، وهو كقوله عز من قائل: (.. واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً..) لقمان: 33، فهذه الأشياء التي ذكرت في هذه الآية امتناع وقوعها في الآخرة، أربعة أنواع تتقى بها المكاره وتتداوى بها الشدائد". ثم يستأنس بما ورد عند العرب؛ حيث إنه إذا دفع أحدهم إلى كريهة، وارتهنت نفسه بعظيمة، وحاولت أعزته دفاعاً ذلك عنه وتخليصه منه بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية، فذبت عنه كما يذب الوالد عن والده بغاية قوته وجلَده، فإن رأى من لا قبل له بممانعته ولا يدله بمدافعته، عاد بوجوه الضراعة وصنوف المسألة والشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغنِ عنه الحالتان، ولم تنجه الخَلتان من الخشونة واللين لم يبق بعدهما إلا فداء الشيء بمثله، وفكه من الأسر، إما بمال وإما بغيره.فإن لم تغن عنه هذه الثلاثة في العاجلة، تعل بما يرجوه من نصر في الآجلة، وإدالة في الخاتمة، كما قال تعالى (.. ثم بغي عليه لينصرنه الله..) الحج: 60 وقال تعالى: "..فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا" الإسراء: 33، على أحد وجوه التفسير، فأخبر الله تعالى، بأن ما يغني في هذه الدنيا عن المجرمين، ويترتب هذه المراتب بين العالمين، لا يغني منه شيء في الآخرة عن الظالمين".أما الآية الأخرى فقدم الفدية على نفع الشفاعة؛ لأن النفس بفداء مؤقت يرتهن عنها مدة معلومة، ولا يكون بعد ذلك فداء يفك الرهن ويخلصه من التبعات، فيكون معنى "لا تجزي نفس عن نفس شيئا" لا تغني عنها بفداء محصور بوقت، ولا بفداء ويخلصه على وجه الدهر"، ثم يَشرع بعد ذلك بتأييد هذا القول، من خلال ذكر متمم الآية، فيقول: "ويكون بعد ذلك "لا تنفعها شفاعة" معناه: ولا تخفف مسألة من عذابها، ولا ينقص شفيع من عقابها، "ولا هم ينصرون" وهو الوجه الرابع الذي ذكرناه أخيرا في شرح الآية المتقدمة. والحديث موصول ـ إن شاء الله ـ حول منهج الخطيب الإسكافي في تناول المتشابه القرآني.