14 سبتمبر 2025
تسجيلفي مقالات سابقة تعرضنا لمفهوم اللحظة النموذجية والتي عرفها الدكتور عبد الوهاب المسيري بأنها اللحظة التي تتجلى فيها ظاهرة ما بلا رتوش. ويبدو أن الولايات المتحدة تشهد في هذه الآونة لحظة من هذا النوع، لحظة يتجلى فيها نموذج العقل النفعي المصلحي، الذي يخضع كل شيء لاعتبارات المادة بما في ذلك أرواح الأمريكيين أنفسهم. أما مناسبة استدعاء هذا النموذج التفسيري فتتعلق بفشل الكونجرس الأمريكي في تمرير قانون يقيد حق حيازة وامتلاك الأسلحة، رغم استمرار مسلسل سقوط العشرات من القتلى بفعل فوضى امتلاك السلاح. فخلال السنوات الماضية كان الاستخدام العشوائي للأسلحة أحد الأسباب الرئيسية لسقوط الضحايا من الأمريكيين. ففي أبريل 1999 قتل شابان في ولاية كولورادو 12 تلميذا قبل أن ينتحرا. وفي مارس 2005 قتل شاب 9 أشخاص في ولاية مينيسوتا ثم قتل نفسه. وفي أبريل 2007 قتل طالب 32 شخصا داخل حرم جامعة فيرجينيا. وفي أبريل 2012 قتل رجل موظفة و6 طلاب في جامعة في ولاية كاليفورنيا. وفي يوليو 2012 أطلق شاب النار داخل دار سينما بولاية كولورادو ما أسفر عن مقتل 12 شخصاً وإصابة 59 آخرين. وفي ديسمبر 2012 قام الشاب آدم لانزا بإطلاق النار على أمه وأرداها قتيلة، ثم توجه إلى مدرسة ابتدائية بولاية كونيكتيكت وقام بإطلاق النار وقتل 20 طفلاً و6 أشخاص من هيئة العاملين بمدرسة، وقام بالانتحار بعد ذلك. الموضوع هنا يتعلق بمأساة حقيقية، فأمريكا التي لا تعاني من الحروب الأهلية، أو الاضطرابات الداخلية تسجل سنويا عددا يتجاوز الـ 100 ألف حادثة إطلاق نار بفعل الاستخدام العشوائي للسلاح. ومن المؤكد أن الكثيرين لا يعرفون أن القوانين الأمريكية تتيح للأطفال هناك اللهو ببنادق حقيقية، والتمرن على استخدامها بذخيرة حية، ولقد تجلت آخر مظاهر هذا العبث في الأسبوع الفائت، عندما قام طفل لا يتجاوز عمره الـ 5 سنوات بإصابة شقيقته التي تبلغ من العمر عامين، عندما كان يلهو بمسدس حصل عليه كهدية! وأطلق عليها عياراً نارياً ما أدى إلى مقتلها. أما الجهة التي تدافع عن استمرار هذه الأوضاع العجيبة فهي "لوبي السلاح الأمريكي" المعروف اختصارا باسم NRA، والذي أنشئ في عام 1871 بهدف تشجيع الأمريكيين على حيازة السلاح وتدريبهم على استخدامه، ويتمتع هذا التنظيم بنفوذ هائل في الولايات المتحدة بفعل ما ينفقه من أموال سياسية، بلغت في آخر موسم انتخابي مبلغ 18.6 مليون دولار، وتمكن من خلالها من الحيلولة دون صدور تشريعات مقيدة لنشاطه. فنواب الكونجرس يفهمون جيدا أنهم إذا ما فكروا في تبني أي تشريعات مضادة لمصالح لوبي السلاح فإنه سوف يصب ملايين الدولارات في حملات مضادة لهم، الأمر الذي سينتهي بهم لا محالة خارج الحياة السياسية. وكان الكونجرس قد رفض قبل أسبوعين تمرير قانون لتشديد الضوابط على حيازة الأسلحة النارية، وقد جاء تصويته السلبي متأثرا بجهود هذا اللوبي. وكشفت مؤسسة صن لايت فاونديشن، وهي هيئة غير حكومية تراقب الشفافية في الإدارة الأمريكية أن غالبية النواب الذين رفضوا تعديلات القانون تلقوا تبرعات من اللوبي المؤيد لبيع وحيازة الأسلحة النارية. هذه التفاصيل تفصح عن أن النموذج الحاكم في الولايات المتحدة هو نموذج المصالح الضيقة، قصيرة النظر، والتي لا تعبأ كثيرا بالشعارات أو القيم الكبرى التي لا تفتأ الإدارات الأمريكية تذكر بها الآخرين، وتدعي أنها منذورة للحفاظ عليها والقيام بها. فالقرارات المهمة تنتج تحت ضغوط سياسية وتوازنات مصلحية وليس بناء على أي مبادئ أو شعارات أو قيم. فإدارة الرئيس أوباما رغم أنها أظهرت دعمها وتأييدها لإصدار قانون تنظيم حيازة السلاح، لم تنجح في تحقيق ما وعدت به الأمريكيين، وانتصرت إرادة لوبي السلاح وحلفائهم من الجمهوريين المتشددين والمحافظين الجدد. هذا الموضوع رغم أنه يبدو شأنا أمريكيا داخلياً، إلا أنه يمكن أن يساعدنا في فهم عملية صنع القرار داخل الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن ظهور النموذج الأمريكي النفعي بهذا الوضوح يحمل استبصارا مفيدا لمن يتخيلون أن أمريكا هي قلعة الديمقراطية النزيهة ومبادئ حقوق الإنسان. فمن يريد لهذه الجرائم الداخلية أن تستمر بحق الشعب الأمريكي هم أمريكيون تعنيهم أرباحهم ومكاسبهم السياسية في المقام الأول، وليسوا إحدى الجماعات العربية المدرجة على قوائم الإرهاب، وهذه الورقة هي مما ينبغي أن تستخدمه الدبلوماسية العربية للرد على التقارير الأمريكية التي تتهم الأنظمة العربية برعاية الإرهاب أو عدم الجدية في مواجهته. من ناحية أخرى يجب أن يعي العرب أن السياسات الأمريكية تراعي توازنات وضغوطات جماعات المصالح. وعلى من يريد التأثير عليها أن يستوعب هذه الخاصية، فالولايات المتحدة لا تتدخل في النزاع العربي الإسرائيلي بوازع من قيم العدل والإنصاف، ولكن بفعل تأثير جماعات الضغط (الصهيونية) التي توجه الإدارات الأمريكية في الوجهة التي تريدها، وإذا أراد العرب أن يكون لهم تأثير مواز فما عليهم إلا تكوين لوبي يمارس ضغوطا مضادة. وبالمثل فإن الإدارة الأمريكية الحالية أو أي إدارة أخرى لن تتحرك بإيجابية إزاء الملف السوري مدفوعة بصور الضحايا أو بفداحة الخسائر التي تلحق بالمدنيين، ولكنها قد تتحرك فقط في ضوء مصالحها على الأرض، وفي ضوء مصالح حلفائها الذين يملكون قدرة الضغط عليها وتوجيهيها في الوجهة التي تخدمهم. وعلى أي حال فإن هذه الأزمة الأمريكية الكاشفة تظهر أن الإدارة الأمريكية أضعف مما تبدو عليه، وأنها مكبلة بقيود وتوازنات داخلية، وعلى أنظمة الربيع العربي ألا تعول كثيرا عليها في حل مشاكلها، خاصة أن الشعوب العربية التي خرجت من غمار ثورات أخلاقية حركتها المبادئ والقيم النبيلة لن يسعدها كثيرا أن يتورط قادتهم في لعبة السياسة القذرة التي تحكم عملية صنع القرار الأمريكي، والتي فشلت في أن تسن من القوانين ما تحمي به أرواح أبنائها فكيف بأبناء الشعوب الأخرى؟