15 سبتمبر 2025
تسجيليعلق البعض أمالا على دور أمريكي أكثر نشاطا في المنطقة في مرحلة ما بعد أوباما (والتي بدأ التحضير لها داخل الولايات المتحدة منذ فترة)، على اعتبار أنه إذا كانت الإدارات الديموقراطية يغلب عليها بشكل عام طابع الإحجام والتردد والنزعة الانسحابية، فإن الجمهوريين، الذين يتوقع الكثيرون أنهم سيخلفون أوباما فى البيت الأبيض، لابد وأنهم سيتبعون نهجا أكثر تدخلية، يخرج المنطقة عن جمودها، ويقلق أنظمة الوضع الراهن التي تستثمر في ملف الإرهاب للإبقاء على الدعم الأمريكي الموجه لها. ولكن على العكس مما يتخيل الكثيرون ليست الإدارة الديموقراطية وحدها هي من يتبنى نموذج الاستقرار، وليست وحدها من ينتهج سياسات الحفاظ على الأوضاع الراهنة، فهناك من الدوائر القريبة من المعسكر الجمهوري، وتحديدا من داخل التيار المحافظ من يؤيدون نهج العزلة، وبدرجة أكبر مما تفعل الإدارة الحالية التي يتهمها البعض بمهادنة الأنظمة المستبدة في المنطقة العربية.فثمة تيار عريض من المحافظين يرى أن الولايات المتحدة عليها أن تحجم عن التدخل في كافة الصراعات العالمية. فالحفاظ على الهيمنة الأمريكية يستلزم من وجهة نظرهم تدخلاً أقل وليس تدخلاً أكثر في شئون العالم، على اعتبار أن إنفاق المزيد من الأموال واستنزاف المزيد من القوة نادرا ما أسهم في تحقيق المصلحة القومية الأمريكية وإنما على العكس أضر بها في الكثير من الأحيان. وعليه فإن الولايات المتحدة وفقا لهم عليها أن تلتزم استراتيجيات دفاعية في المقام الأول وألا تتورط في المزيد من الصراعات غير المجدية. من أهم رموز هذا التيار باتريك بوكانان، المسؤول السابق في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، فضلاً عن طيف واسع من السياسيين يطلق عليهم اسم المحافظين التقليديين أو الـ Paleoconservatives. ومن أشهر المحسوبين على هذا التيار أيضا الأكاديمي الشهير "صامويل هانتنجتون، صاحب كتاب صراع الحضارات، والذي سعى لتحديد خطوط التماس بين الحضارات، منعا للانخراط في مشاكلها أو الصراع معها وتركيزا على الشأن الأمريكي الداخلي، ولذا كان من اللافت أن يأتي الكتاب الأخير لهانتنجتون قبل وفاته مباشرة تحت عنوان "من نحن؟".هذا ويقف المحافظون التقليديون موقف المعارضة والنقد من "الـمحافظين الجدد"، المشهورين في العالم العربي منذ فترة حكم ريجان بنزعتهم التدخلية، والذين يسعون من وجهة نظر ناقديهم إلى بناء إمبراطورية أمريكية عبر شن الحروب والتدخل في شئون الآخرين، في الوقت الذي يحدد المحافظون التقليديون لأنفسهم دورا أقل انفتاحا على العالم يتمثل في الحفاظ على قيم الجمهورية، والتأكد من تحقيق التمازج بين قيم المسيحية والثقافة الأمريكية، من خلال معارضة التعدد الثقافي، حفاظا على التقاليد والشخصية الدينية الأمريكية. المدهش أن "المحافظين غير الجدد" هؤلاء هم المطورون الأساسيون لنظرية "حروب الجيل الرابع" التي أضحت شهيرة في عالمنا العربي بعد انحسار ربيع الثورات، وقد ابتدعوها بدافع من حرصهم على تحذير الإدارات الأمريكية من مغبة التدخل في شؤون الغير، وبخاصة في الشرق الأوسط، الذي يرون أن معظم الإخفاقات التي حلت بالولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة حدثت نتيجة تدخلها في شؤونه، ومن أبرز هذه الإخفاقات من وجهة نظرهم أحداث 11 سبتمبر، ثم الفشل الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق، وأخيرا التعثر الأمريكي الواضح في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، وبناء عليه فقد جاء تطويرهم لنظرية حروب الجيل الرابع لتأكيد موقفهم غير التدخلي. (ولكن المدهش أن مقتبسي النظرية، من الساسة والإعلاميين العرب، قد أغفلوا هذا السياق، واعتبروا أن نظرية "حروب الجيل الرابع" إنما تم تطويرها لكي تعبر عن الخطط الأمريكية للتدخل في شؤون المنطقة لتفكيك دولها ودفعها إلى حافة الهاوية والفوضى.) مراجعة مقولات "المحافظين غير الجدد"، تظهر أيضا رفضهم لسياسات فرض الديموقراطية، التي يرون أن الكثير من شعوب الشرق الأوسط غير مؤهلين لممارستها، ومن ثم فإنهم يرون عبث محاولة فرضها عليهم بالقوة كما يؤمن نظراؤهم من المحافظين الجدد، ولكنهم في ذلك الوقت لا يحبذون دعم الأنظمة المستبدة، على اعتبار أن مثل هذه الأنظمة هي التي تدفع الأفراد إلى التمرد والإرهاب، ومن ثم تجعل منهم خطرا يتهدد المصالح الأمريكية عبر العالم.أما فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، يدين المحافظين التقليديين موقف نظرائهم من "المحافظين الجدد" الذي يصل في درجة موالاته للدولة العبرية إلى حد اعتبار "تل أبيب" عاصمة للولايات المتحدة وليس لإسرائيل. كما أن كثيرا من هؤلاء المحافظين (غير الجدد) يعتبرون أن الدعم غير المشروط الذي تقدمه الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإسرائيل مسؤول بدرجة كبيرة عن معظم الهجمات "الإرهابية" التي تعرضت لها أمريكا، كما يتحدثون بكل وضوح عن أن المحافظين الجدد إنما يدفعون أمريكا باتجاه الحرب دفاعا عن إسرائيل وليس عن المصالح الأمريكية بالخارج.وفيما يتعلق بموقف هذا التيار من الإسلام، فإنه يعتبر أن ثمة عقدة تاريخية وتكوينية تحول بينه وبين الانفتاح عليه، فالمحافظون التقليديون يرون أن الإسلام يمتلك كافة مقومات الصراع مع الغرب، وهذا لا يقتصر على النسخة السياسية منه وإنما أيضاً على النسخة الثقافية، فالإسلام الثقافي وفقا لهم لا يبدو متوافقا مع قيم الحضارة الحديثة، ويستحسن أن يظل داخل حدوده، ولا يتمدد داخل الأراضي الأمريكية بأى شكل، وهم يعتبرون أن الثقافة الإسلامية تشكل المعين الذين تغترف منه معظم حركات الاحتجاج السياسي من غير الدول، مثل القاعدة وطالبان وحماس وحزب الله وتنظيم الدولة الإسلامية، وهم يعتبرون أن هذه الحالة من المواجهة لن تتوقف، فطالما أن الشكل الحالي للدولة الحديثة شكل علماني، فسيظل مجال الحركة الأساسي أمام الإسلاميين هو المقاومة غير النظامية والتي ستشكل التهديد الأساسي للغرب والولايات المتحدة في المستقبل.الشاهد من استعراض خصائص ومقولات تيار المحافظين "غير الجدد" التأكيد على أن التعويل على أمريكا بكافة أطيافها السياسية لا يحمل في طياته حلا من أي نوع لأزمات ومشاكل المنطقة، فقط مبادرات الداخل وحراك الداخل وسياسات الداخل هي ما يمكن أن يحمل أملا للمنطقة للخروج من حالة الانغلاق التي تعيشها. وأيا ما كانت التوجهات السياسية لساكنى البيت الأبيض المقبلين، وسواء كان نهجهم انسحابيا أو تدخليا، فإن هذا شأن يخص الداخل الأمريكي ويستهدف تحقيق المصلحة الأمريكية وليس مصلحة المنطقة العربية والإسلامية بأي حال. مسلمات لا بأس من التذكير بها من حين لآخر.