12 سبتمبر 2025
تسجيلالمصطلح موجودٌ بشكل رسمي في علم صناعة السياسات العامة public policy وهو يعني تحديداً معنى نافذة الفرصة window of opportunity. لا أحد يعرف كيف ومتى يمكن أن تنفتح هذه النافذة، ولكنها تنفتح في كثيرٍ من الأحيان. يحصل هذا من أكبر القضايا إلى أصغرها، ومفرق الطريق يتمثل في قدرة السياسي المحنك على التقاط حقيقة وجودها ثم معرفة كمونها ثم الاستفادة منها، بما يحقق المصالح العامة، في مثالنا هنا على الأقل.وحين يتواجد في الرياض كل القادة الإقليميين والدوليين المؤثرين خلال الأسبوعين الماضيين، فلا حاجة لعبقريةٍ عند الاستنتاج بأن النافذة هناك.وفي حين أن الجميع يبحث عن (الاستقرار) في المنطقة، فثمة قانونٌ اسمه (التغيير من أجل الاستقرار) كان استخدمه الخبير الاقتصادي المصري حازم الببلاوي عنواناً لكتابٍ له منذ أكثر من عقدين.فالتغيير سنةٌ من سُنن الحياة البشرية، لا يمكن، بغيابه، استمرارُها، فضلاً عن نموّها وتطورّها. وثمة مقولة شائعة في الأوساط العلمية تقول إن "الثابت الوحيد في هذه الحياة هو التغيير". يَصدُقُ هذا على كل شيء، ويصدق بالتأكيد على السياسات. من هنا، فإن الشعور بالحاجة إلى التغيير أمرٌ طبيعيٌ جداً ابتداءً، بغضّ النظر عن أي ملابسات، أو عن أي ظروفٍ دوليةٍ أو إقليمية طارئة.. لكن وجود تلك الملابسات وهذه الظروف يُضفي مزيداً من المشروعية على الدعوة للتغيير، لأن التغيير المطلوب الذي نتحدث عنه في المنطقة العربية يجب أن يكون في حقيقته استجابةً إراديةً واعيةً لا يمكن حفظ (الاستقرار) إلا من خلالها.وكما يقول الدكتور الببلاوي: "فالتغيير ليس مناقضاً للاستقرار، بل قد يكون من أهم مقوماته. والاستقرار ليس معناه الجمود وعدم التغيير، بل معناه التلاؤم بين الظروف والأوضاع والنظم والقواعد. وكما أن الظروف والأوضاع في تغيرٍ مستمر، فكذا ينبغي أن تكون النُّظمُ والقواعد، وعدم مسايرتها لتطور هذه الظروف والأوضاع يُولّدُ المصادمات والانفجارات وبالتالي يُهدّدُ من أساس الاستقرار. فالاستقرار يتطلب توازناً مستمراً بين ظروف الحياة من ناحية والنظم والقواعد من ناحية أخرى، وهو توازنٌ لا يتحقق إلا بمتابعة هذه التطورات وأحياناً الإسراع بها وليس بالوقوف أمامها، وقل إنه توازنٌ مُتحرّك أقرب إلى توازن راكب الدراجة يستمر طالما كان متحركاً إلى الأمام، ويختلُّ وقد يسقط من فوق دراجته إذا توقف عن السير".جَرَّبت المنطقة في السنوات القليلة الماضية طريقةً في السياسة باتَ واضحاً للجميع أنها لم تحقق أهدافاً إيجابية، وللجميع أيضاً. والسياسة ليست علماً فيه قواعدُ حسابية صارمة أو معادلات كيميائية لا تتغير ولا تتبدل. على العكس، ثمة حاجةٌ للمرونة والقدرة على الاستفادة من الدروس والتلاؤم مع المتغيرات لا نهاية لها. وكما يقول عبد الخالق عبد الله أستاذ العلوم السياسية من الإمارات: "فاختيار الأهداف الصحيحة واتخاذ القرارات المناسبة وحل المشكلات المعقدة وتوزيع الأدوار والمهام والموارد وضبط العلاقات.. كل ذلك لا يتم وفق قوالب جامدة وقواعد خالدة وقوانين مقيدة ولوائح معدة سلفاً في الكتب والمؤلفات... العمل السياسي كالعمل الفني فيه الكثير من الخلق والإبداع والابتكار علاوةً على الجرأة"..كان ثمة اختلافٌ في وجهات النظر في المرحلة السابقة حول الأولويات التي تستحق الاهتمام. لكننا الآن أمام مرحلةٍ جديدة تفرض، بكل وضوح، جدولَ أولويات يمكن الاتفاق عليه بشكلٍ أكبر. هنا، تحديداً، تكمن ضرورة (التغيير) في السياسات من أجل (الاستقرار).ودون التهوين من كل القضايا الأخرى، ثمة سرطانٌ ينتشر بسرعة، ويجب التعامل معه دون ترددٍ وتسويف وحسابات قصيرة النظر، ليس فقط لأن هذا قد يُسهل عملية التعامل مع تلك القضايا، وإنما لأن السرطان يُهدد باجتياح أجزاء أخرى من الجسد العربي المُنهك، بحيث يخلق متواليةً من القضايا الجديدة التي سرعان ما ستصبح خرقاً يتسع على الراقع.وبعد تصريح وزير الخارجية السعودي الواضح والعلني بأن إيران "تشجع الإرهاب وتحتل أراضي عربية، وهذه ليست من خصال الدول".. فإن الأولوية الأولى والأساسية واضحةٌ تماماً. وستكون أهم ساحتين للتعامل مع تلك الأولوية في سوريا واليمن. بَلَدان يمكن القول إنهما باتا بشكلٍ أو بآخر تحت الاحتلال الإيراني المباشر. وهو ما يهدد الأمن العربي والإقليمي بأجمله، كما أنه، للمفارقة، العنصر الذي يفتح نافذة الفرصة التي نتحدث عنها لإعادة تجميع الصفوف، ما أمكن، حول هذه الأولوية، وبما يحقق الحد الأدنى من المصلحة العربية.لا ندعو هنا إلى عملٍ عربيٍ مشترك، ولا ننادي بتنسيقٍ عربيٍ أخوي، ولا نطالب بتعاونٍ عربيٍ فعّال. فالواقع الفاقع يؤكد لنا أن هذه الشعارات التي لم تُغنِ ولم تُسمن من جوعٍ يوماً، لن يكون لها حتماً أن تُترجم إلى واقع عملي في مثل هذه الظروف المعقدة.لقد أصبح ملايين العرب يعرفون الحقائق، بل صاروا واقعيين ويعلمون أن أي حركة ستكون في إطار ممارسة فن الممكن. لكنهم يعرفون أيضا أن دوائر هذا الممكن أوسع بكثير من الشرنقة التي يجري حصارهم فيها بذرائع لم تعد تنطلي على أحد. ورغم أن الملايين يحلمون في العالم العربي بصلاح الدين، لكنهم حين يستيقظون لا يأملون بأكثر ممن يتعامل مع عالمهم بشيء من الحكمة والشجاعة. من هنا، فإن تلك الملايين من العرب لن تمانع أن يقودها من هو جدير بالقيادة، يقودها للحفاظ على حدٍّ أدنى من الكرامة والأرض والهوية.لم يعد العرب في حاجة إلى من يشرح لهم خطورة واقعهم، وإذا كان البعض حتى الآن لا يشعرون، أو لا يريدون أن يشعروا، إلى أين يمضي ذلك الواقع في ظل ثلاثية الانكشاف والاستفراد والسوابق، فإن في العرب من يعرف تماما نهاية هذا الطريق. في آخر المطاف، لن يكون الغد العربي، استقراراً أو فوضى، إلا صدى لخيارات الحاضر، فالمسألة في النهاية مسألة خيار لا يستطيع أحدٌ أن يلزم أحداً به. غير أن الحساس في الموضوع هو أن الخيار لن يبقى مطروحاً إلى الأبد، لذلك فإن قراراً بشأنه يجب أن يتم اليوم، قبل فوات الأوان، قبل أن تختفي نافذة الفرصة التي لا تبقى عادةً، في عالم السياسة، مفتوحةً لفترةٍ طويلة.