15 سبتمبر 2025

تسجيل

الحرب الروسية.. وتداعيات الأزمة الأوكرانية (1)

08 مارس 2014

يكاد لا يمر يوم واحد من دون أن تفرض الأزمة الأوكرانية نفسها على المسرح الجيوبوليتيكي العالمي، بسبب الأحداث التي تعيشها أوكرانيا، ولاسيما في شبه جزيرة القرم، حيث اتهمت السلطات الانتقالية الأوكرانية موسكو بالقيام بـ"اجتياح مسلح" للمنطقة ودخول قواتها للسيطرة على مطارين، في الوقت الذي ظهر الرئيس الأوكراني المعزول فيكتور يانوكوفيتش للمرة الأولى"عازما على الكفاح من أجل مستقبل أوكرانيا ضد أولئك القوميين والنازيين الذين يمثلون المصالح الغربية". وينظر المحللون في الغرب إلى أن سيطرة القوات الروسية على منطقة شبه جزيرة القرم، التي تنتمي إلى الجمهورية الأوكرانية، انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ولكل المعاهدات التي وقعتها روسيا بالذات في هذا الصدد.. إنه عودة إلى منطق الحرب الباردة، وقعه الرئيس فلاديمير بوتين، الذي لا يزال يدغدغه الحنين إلى الماضي السوفياتي، علماً أن فلاديمير بوتين نسي أنّ الاتحاد السوفياتي انتهى وأن الحرب الباردة صارت جزءا من الماضي في اليوم الذي سقط فيه جدار برلين في نوفمبر 1989. ويبدو أنّ بوتين يرفض أخذ العلم بذلك ويظنّ أنه في الإمكان تكرار اجتياحات بودابست 1956 وبراغ 1968 في كييف السنة 201.. فقد سيطر آلاف الجنود الروس على المناطق الإستراتيجية في شبه جزيرة القرم، وأحكمت موسكو سيطرتها على شبه جزيرة القرم، بعد عملية واسعة لنزع سلاح وحدات الجيش الأوكراني المرابطة فيها، إذ حاصرت مواقع عسكرية أوكرانية محدودة، وتمتلك روسيا قاعدة ضخمة في جزيرة القرم، حيث يتمركز فيها قرابة 20.000 جندي روسي. وليس الكرملين بحاجة إلى مثل هذه القوات لكي يغزو أوكرانيا، وهو لن يتوانى في سوق الذرائع لهذا الغزو من قبيل، حماية "الروس الذين يعيشون في أوكرانيا منذ العقود السوفياتية الغابرة، و حماية المصالح القومية الروسية".. وكان بإمكان الرئيس بوتين أن يدافع عن الأوكرانيين من أصل روسي الذين يقطنون في شرق أوكرانيا، والذين انتابهم الخوف من جراء اتخاذ البرلمان الأوكراني إلغاء اللغة الروسية من بين اللغات المحلية المعترف بها في أوكرانيا، وعن المصالح الروسية، من خلال فتح حوار مباشر مع السلطات الأوكرانية الجديدة في كييف، وحثها على إيجاد تسوية مرضية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل، لأن الرئيس بوتين غير مستعد للتفاوض بشأن أوكرانيا، لأنها من وجهة نظره هي الحديقة الخلفية لروسيا، والحال هذه بجب أن يطبق عليها سياسة السيادة المحدودة التي كان يطبقها الزعيم الراحل ليونيد بريجنيف على دول أوروبا الشرقية أيام الحقبة السوفياتيةن وعصر الحرب الباردة، ويعتقد الرئيس بوتين أن روسيا ستفقد أوكرانيا، إذا اختارت الحكومة الأوكرانية الجديدة توقيع شراكة مع الاتحاد الأوروبي، بدلا من الاتفاق الجمركي الذي يريد الكرملين فرضه عليها. في ظل هذا التصعيد العسكري، أعلنت أوكرانيا أنها استدعت قوات الاحتياط ووضعت جيشها في حالة تأهب قصوى. واعتبر رئيس الوزراء الأوكراني أرسيني ياتسينيوك أن موافقة مجلس الاتحاد الروسي على إرسال قوات إلى أوكرانيا "إعلان حرب" على كييف، مضيفاً: "إذا أراد بوتين أن يكون الرئيس الذي سيبدأ حرباً بين دولتين جارتين وصديقتين، هما أوكرانيا وروسيا، فكاد يبلغ هدفه، إذ نحن على شفير كارثة".ومن وجهة نظر الدول الغربية، تعتبر شبه جزيرة القرم مسألة ثانوية في ظل تمتع روسيا باتفاقية مع أوكرانيا تضمن لها مصالحها، وبذلك أصبحت شبه جزيرة القرم رهينة إستراتيجية، لكن ما تقوم به روسيا بوتين هي حرب من أجل زعزعة استقرار أوكرانيا للحيلولة دون إبرامها اتفاقية مالية مع الدول الغربية. ففي المجال الخارجي القريب لروسيا، السيادة لأوكرانيا يجب أن تكون محدودة، لأن بوتين يعتبر أن الدول الغربية عدوة لروسيا. وفضلاً عن ذلك، خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن صمته يوم الثلاثاء الماضي، لينفي التورط الروسي في أوكرانيا ويندد بما اعتبره "انقلاباً" على فيكتور يانوكوفيتش "الرئيس الشرعي الوحيد"، وذلك بعد بضع ساعات فقط من إعلان واشنطن وقف تعاونها العسكري مع موسكو.واقترح الرئيس الروسي على الدول الغربية تقييم شرعية سياساتها، مذكراً بأعمال واشنطن في أفغانستان والعراق وليبيا. وقال إن "القوات الغربية تدخلت في هذه الدول من دون أي تفويض من قبل مجلس الأمن الدولي على الإطلاق أو بتشويهها لقراراته"، مضيفاً أن "قرار مجلس الأمن الدولي حول ليبيا نص فقط على إنشاء منطقة محظورة للطيران، إلا أن الأمر انتهى بالقصف ومشاركة وحدات خاصة في عمليات على الأرض". وبالمقابل، يعرف الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أن الرئيس بوتين يدرس كافة الخيارات العسكرية وغير العسكرية، في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، وشدد على أنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائهما، فإن "ما تقوم به روسيا يشكل انتهاكاً للقانون الدولي"، مضيفاً "أعلم بأن الرئيس بوتين لديه على ما يبدو تفسير مختلف.. لكن في رأيي فإنه (هذا التفسير) لا يخدع أحداً".وتابع الرئيس الأمريكي أن "المجتمع الدولي ندد بانتهاك روسيا لسيادة أوكرانيا، لقد نددنا بتدخلها في القرم. وندعو إلى نزع فتيل التصعيد وإلى نشر فوري لمراقبين دوليين". تعتبر شبه جزيرة القرم قنبلة متفجرة في العلاقات بين الشرق والغرب، فمن الناحية التاريخية، قامت باريس ولندن بإعلان الحرب على روسيا، ومساندة الإمبراطورية العثمانية في عام 1854. وفي عام 1954، تم إعطاء شبه جزيرة القرم إلى الجمهورية الأوكرانية التي كانت جزءا لا يتجزأ من الاتحاد السوفياتي. وفي عام 1994، أكد الاتفاق الموقع بين واشنطن، ولندن، وكييف، وموسكو، على نزع السلاح النووي الذي كان بحوزة الجمهورية الأوكرانية، وضمان وحدة أراضيها. ويشرح لنا هذا الإرث الثلاثي المتمثل في -التحالف الغربي والمسألة الشرقية، والحرب الباردة و"الأخوة السوفياتية"، ووحدة الأراضي والقيادة الأمريكية للنظام الدولي الجديد-خطورة الأزمة الحالية، التي تتجاوز أوكرانيا من الآن فصاعدا، في ظل انبثاق المسألة الروسية، أي طبيعة العلاقة بين الغرب وموسكو، فمن الناحية التاريخية تمت بلورة المسألة الروسية في إطار المحفل الأوروبي، ضمن سياق شبكة من الاتفاقيات المتعددة التي كانت تستهدف إقامة توازن القوى باسم الحضارة المشتركة، كما أن المسألة الروسية تمت معالجتها من قبل الدوائر المعنية بالحرب الباردة في الولايات المتحدة الأمريكية، أما من الجانب الروسي، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكوارث عقد التسعينيات من القرن الماضي التي عرفتها روسيا في عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسين، استخلص الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، الدروس من المراحل الإمبراطورية والسوفياتية التي مرت بها روسيا، لكي يعيد انتهاج سياسة خارجية تقوم على أساس استعادة روسيا كقوة عظمى على المسرح العالمي، وقد نجح بوتين في هذه السياسة. من هنا، نفهم أن الإدانات المتبادلة بين روسيا والغرب، تجد جذورها في هذا الإرث المختلف، فهي لا تمنع الأحكام المسبقة التي عادة ما تكون خاطئة، ولا المواقف الحربية، إنه ديالكتيك الإرادات، في ظل إستراتيجية تنتج يوميا مفارقات عجيبة.. ففي ظرف أسبوع، فقدت روسيا أوكرانيا ولكنها ربحت شبه جزيرة القرم. ولكي نفهم "سيرورة" الأحداث في أوكرانيا، علينا أن نحدد ما هي أهداف الحرب، والأهداف السياسية التي توخاها الكرملين.