18 ديسمبر 2025
تسجيلشكل انفجار الوضع في أوكرانيا مفاجأة للجميع.. وإذا كانت أوكرانيا تملك كل الخصائص التي تقودها إلى حروب أهلية لجهة الخلافات والكراهيات بين الإتنيات والأديان والمذاهب، فإنها تقع في موقع إستراتيجي في غاية الأهمية يشبه كثيرا موقع تركيا الإستراتيجي. فهي تقع جغرافيا في منطقة تتوسط أوروبا وآسيا والغرب والشرق وبين الشمال السلافي والجنوب الإسلامي. وتتوزع الإتنيات فيها بين أوكرانيين وروس والأديان بين أورثوذكس في الشرق وكاثوليك في الغرب.أهم ما في الموقع الأوكراني هو أنها تقع في جوار دولة عظمى هي روسيا الاتحادية.. أي أنها بمثابة المكسيك للولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي عليها أن تراعي ذلك في حدّه الأقصى.لذلك عندما انهار الاتحاد السوفياتي كانت روسيا تواجه خطر انكشافها في مجال حيوي يتقلص وصولا إلى داخل البيت.. وأوكرانيا أحد الأمثلة على الخاصرات الرخوة الجديدة لروسيا.. وهو ما بدأ في ما سمي بالثورة البرتقالية التي أطاحت بالحكم الشيوعي أولا وترجم لاحقا بتزخيم النزعة الموالية للغرب.. وقد استغرق ذلك بعض الوقت حتى يجد متنفسا له عبر الانقلاب الأخير ضد الرئيس الأوكراني ياكوشينكو.وكانت هذه شرارة الأزمة الأوكرانية التي أثبتت مجددا أن الجيوبوليتيك ثابت لا يتغير عبر التاريخ فكان القرار الروسي بالتحرك لمنع انتقال أوكرانيا من موقع إستراتيجي موال لموسكو إلى موقع إستراتيجي موال للغرب.. وتم لموسكو ذلك عبر السيطرة على جزيرة القرم مستغلة، كون هذه المنطقة ذات الغالبية الروسية جمهورية ذات حكم ذاتي ضمن أوكرانيا فقامت القوات الروسية باحتلال القرم مدعومة بتأييد السكان المحليين ومؤسسات الدولة.ما جرى في أوكرانيا أثار القلق في تركيا من أن تكون تركيا هي المحطة الثانية من المتغيرات الجيوإستراتيجية في منطقة البحر الأسود.. لقد عملت روسيا على الحد من خسائرها المؤقتة في أوكرانيا لكن الانقلاب على الرئيس الأوكراني فتح أمام متغيرات إسترتيجية واحتمال كبير بنشوء دولة مستقلة جديدة هي جمهورية القرم أو انضمامها إلى روسيا الاتحادية.تركيا تواجه تحديدات كثيرة، فبعد التراجع الكبير في سياساتها الخارجية في المنطقة العربية وفي شرق المتوسط هاهي أمام تحد في منطقة البحر الأسود بظهور موقع روسي متقدم في القرم في مواجهة السواحل التركية، ليس ذلك فحسب بل إن الاضطرابات وحال الانقسام التي لا تزال تشهدها أوكرانيا قد تهيئ المناخ النفسي لتكرار ذلك في تركيا خصوصا أن واشنطن وإدارة أوباما ليستا راضيتين عن سياسة تركيا تجاه إسرائيل، ويساعد على مثل هذا السيناريو أن رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان يواجه مشكلات داخلية كثيرة تتعلق بملفات الفساد والتنصت والقضاء والرقابة وخصوصا الصراع مع الداعية الديني فتح الله غولين والذي لا يزال يأخذ أبعادا جديدة وخطيرة.ويبرز التحدي من تكرار السيناريو الأوكراني في روسيا من خلال ما كتبه رئيس تحرير صحيفة "يني شفق إبراهيم قره غول"- المؤيد لحزب العدالة والتنمية الذي كتب قبل أيام" هل تعرفون أن المئات من الأجانب يشبّهون تركيا اليوم بأوكرانيا؟ هل تعلمون أنه من أجل إسقاط أردوغان سوف يلجأون في حال لم تنجح محاولات إسقاطه بشرائط التسجيل وملفات الفساد إلى تطبيق السيناريو الأوكراني وإدخال البلاد في حالة من الفوضى العارمة؟" وأضاف:"أن شيفرات التمرد في أوكرانيا شبيهة جدا بشيفرات أحداث غيزي في إسطنبول، وكما يريدون إخراج أوكرانيا من النفوذ الروسي يريدون إقفال الطريق أمام أول حركة استقلالية تركية منذ مئة عام وإعادتها إلى حظيرة النفوذ الغربي، تركيا تدفع منذ مئة عام ثمن موقعها الإستراتيجي تماما مثل موقع أوكرانيا بين الشرق والغرب، فليدرك الأتراك ذلك ويكونوا أوفياء لبلادهم".تطرح الأزمة الأوكرانية تحديات جديدة أمام السياسة الخارجية التركية خصوصا بعد فشلها في منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن أوكرانيا هي خط تماس بين روسيا وتركيا وفي ظل وجود من 200 إلى 300 ألف من أصل تتاري في القرم سيكون صعبا على تركيا ألا تتبنى مطالبهم وتحمي هواجسهم المعادية للروس، لكنها لا يمكن في المقابل أن تضحي بعلاقاتها الاقتصادية المميزة مع روسيا، كما أن إجبار تركيا على الاختيار بين حلف تنتمي إليه هو حلف شمال الأطلسي وبين البقاء على الحياد بينه وبين روسيا سيكون امتحانا صعبا.لكن في جميع الأحوال، ستكون تركيا أمام اختبار كبير في حال تفاقمت الأزمة الأوكرانية ويبقى أن القلق الأكبر من أن يحاول البعض نقل شيفرات الاضطراب في كييف إلى إسطنبول وأنقرة.