16 سبتمبر 2025

تسجيل

تركيا والنموذج التونسي

08 فبراير 2014

لا تخطئ تركيا منذ قرن ونصف القرن في أنها نموذج للبلد المنقسم على نفسه. كون القدر التركي منذ السلاجقة فالعثمانيين فالجمهورية على خط تماس جغرافي وحضاري مع الغرب وجوهرته أوروبا، فرض عليها أنماطا محددة من التفكير بالهوية والمستقبل والتحدي.لقد تشكلت الهوية القومية الأوروبية استجابة لتحدي الوجود والخطر التركيين على الأراضي الأوروبية. وفي الوقت نفسه شكل الصعود الحضاري الأوروبي منذ عصر النهضة ومن ثم انفجاره في عصر الثورة الصناعية وبلوغه ذرى فضائية في القرن العشرين واستمرارا إلى اليوم، شكل بدوره تحديا للحالة التركية التي بدأت تتأثر بالتقدم الأوروبي، خصوصا من منتصف القرن التاسع عشر، فكانت الإصلاحات التي عرفت بالتنظيمات عام 1839 ومن بعدها إصلاحات 1856 وصولا إلى إعداد أول دستور في العام 1876.التحدي الأوروبي لم يحدث استجابة كافية لدى النخبة الحاكمة في العهد العثماني، إذ ضغط الشعور بالهوية الإسلامية ليلجم الاندفاع إلى ما بعد عتبة الاستفادة من الإنجازات الأوروبية.ومع بدء العهد الجمهوري تجاوز مصطفى كمال أتاتورك كل التوقعات وتحدى الإرث العثماني والموروث الإسلامي وأطلق أوسع وأكبر حملة إصلاح وتغيير في التاريخ التركي على مر العصور تأثرا بإعجابه بالحضارة الغربية. وإذا كانت العلمنة وتغيير الحرف هي التي علقت بأذهان الرأي العام في العالم العربي والإسلامي غير أن السعي لتغيير الذهنية التركية الموروثة كان من أكبر الخطوات وأكثرها جرأة.ولقد استمرت هذه التجربة على امتداد القرن العشرين إلى ما قبل عشر سنوات تقريبا.لكن نظرة بانورامية لمحصلة هذه التجربة نجد أنها حفزت التغيير في أكثر من مجال وقطاع ولكنها عجزت عن تغيير الذهنية التركية التي بقيت متصلة بالهوية الإسلامية، فكانت سببا لانقسام المجتمع بين فئات علمانية وليبرالية ويسارية وبين فئات محافظة. لم تستطع التيارات العلمانية والليبرالية أن تخترق جدرانا سميكة من الذين يرون في الهوية الإسلامية درعا وأمانا من "غدرات" التحديث، فكان الصراع مريرا بين التيارين والذي انعكس في السياسة والاجتماع والثقافة، بل حتى في السياسة الخارجية.ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 بدأ ما عرف بالثورة الصامتة التي كانت ردا على "ثورة أتاتورك". الطابع العام للإصلاحات التي انتهجها رجب طيب أردوغان كان إسلاميا ومحافظا بهدف تحرير الهوية الإسلامية للمجتمع من القيود والأغلال التي كبلها بها التيار العلماني الذي حكم تركيا لعقود.غير أن الانقسامات والخلاف على طبيعة الإصلاحات التي جاء بها أردوغان ما لبثت أن تحولت إلى مادة خلافية وانقسام حاد في المجتمع وفي الطبقة السياسية. ورغم أن أردوغان لا يزال يحظى بتأييد حوالي نصف المجتمع، غير أنه لم يستطع أن يقنع النصف الآخر بأنه سيقف عند حدود ما أنجزه ولن ينال من المعتقدات الفكرية والحياتية التي تحملها الفئات الأخرى. وكما توقفت إصلاحات أتاتورك عند عتبة هواجس الفريق الإسلامي فإن إصلاحات أردوغان توقفت عمليا ولاسيما بعد انفجار الخلاف مع الخصوم بعد أحداث تقسيم وقضية الفساد، عند عتبة قناعات الفريق الآخر. ومما يظهر من خريطة توازنات القوة الداخلية فإنه رغم نيل أردوغان وحزبه أصواتا كافية للبقاء في الحكم، غير أنها ليست كافية لأن يحكم البلاد كما يريد ووفقا للمشروع الذي يحمله. وإذا لم يكن أردوغان، كما خصومه، مستعدين للذهاب إلى مصالحة تاريخية فيما بينهم والاتفاق على دستور جديد يكون موضع اتفاق وإجماع، تماما كما حدث في تونس، بحيث يعكس المبادئ الأساسية للحريات والديمقراطية والدولة المدنية، بل حتى الدور التركي في محيطه والعالم، فإن الانقسام التاريخي سوف يستمر.وهو انقسام كان يبدد الطاقات الهائلة التي تختزنها تركيا، كونها على خط التماس الحضاري والجغرافي الوحيد مع الغرب. ومع أن نسبة الأمل بحدوث هذه المصالحة ليست عالية، فإن تركيا وحدها مؤهلة نظرا لتراكم التجارب المتنوعة، في إحداث خرق مؤثر إقليميا وعالميا (الخرق التونسي يبقى محدودا في تأثيراته الخارجية)، من بين سائر الدول الإسلامية.