17 سبتمبر 2025

تسجيل

الهوتو والتوتسي في مصر

08 يناير 2014

يتذكر الجميع مذابح رواندا الشهيرة، والأرقام الضخمة للضحايا الذين سقطوا في الصراع الذي دار هناك في التسعينيات، ولكن القليلين من يدركون أن الأسباب التي مزقت المجتمع الرواندي لا تخصه وحده وإنما يمكن أن تتكرر في أي مجتمع آخر يسير على خطى سيناريو صناعة الانقسام.بدأت قصة الانهيار الرواندي خلال الحرب العالمية الأولى حين تم وضع الإقليم تحت سيطرة الإدارة البلجيكية، حيث وجدت الأخيرة أن المجتمع القبلي متوازن بين عرقيتين، هما الهوتو (85%) والتوتسي (14 في المائة). وكان سر التوازن أنه رغم تفوق التوتسي إلا أن الحراك الاجتماعي كان ممكناً ومرنا. ولكن المستعمر أبى إلا أن يعمق الانقسام في المجتمع، حيث أكد تفوق أبناء التوتسي، وروج لنظريات عن انحدارهم من سلالة ملكية، وبدأ علماؤه في إجراء تجارب تشريحية لتأكيد هذه النظرية، وانتهوا إلى الزعم بأن الفرد المنتمي للتوتسي له خصائص جسمانية وتشريحية مختلفة عن ذلك الذي ينتمي للهوتو، ولهذا فهم الأجدر بالتحكم والسيادة نظرا لخصائصهم العرقية والخلقية. ولم تكد تبدأ موجة التحرر من الاستعمار الأوروبي حتى اشتعل فتيل التوتر في رواندا. حيث طالب الهوتو بتصحيح الاختلالات التي تسبب فيها الاستعمار، وبدأوا ثورة قتلوا فيها المئات من التوتسي وشردوا الآلاف وأجبروهم على الفرار إلى البلدان المجاورة. ومن جانبهم بدأ اللاجئون من التوتسي محاولة استرداد مواقعهم عبر شن الهجمات على الهوتو. وقامت وسائل الإعلام بنشر شائعات لا أساس لها من الصحة مما أدى لتفاقم المشاكل بين الطرفين. وفي عام 1994 أشعل مصرع رئيس رواندا في حادث سقوط طائرة جذوة المذابح الكثيفة والمنهجية، ففي غضون أقل من نصف ساعة على وقوع الحادث كانت المتاريس قد أقيمت للقتل على الهوية، حتى فاقت أعداد القتلى مليون نسمة من الجانبين. كلمة السر إذن هي التفكيك، حيث كانت طريقة المستعمر في تأسيس هيمنته هي فرز المجتمع على أساس انقساماته العرقية أو الدينية أو المذهبية، ثم تقريب الطرف الأضعف وتقويته، لكي يمثل وكيلاً لمصالحه، بحيث يعتمد عليه حتى بعد خروجه من الأراضي التي احتلها. حدث هذا في كل مكان دخله المستعمرون، في السودان، وفي ليبيا، وفي المغرب العربي. وفي أعقاب الانقلاب الذي شهدته البلاد تبدو مصر، للأسف، سائرة بخطى حثيثة في طريق مماثل، فعلى الرغم مما تملكه من تاريخ وحضارة وإمكانات قد لا تتوفر لأي من الدول المجاورة لها، إلا أن الانقلاب قد نجح في جرها إلى مستنقع الانقسام، وأفرز فريقين متخاصمين؛ فريق مؤيد للانقلاب، وآخر متمسك بالشرعية. وبين هذين الفريقين يذكي الانقلابيون كافة مظاهر المنابذة، من خصام وجدال وشجار، وصولا إلى الدعوة للاقتتال الأهلي. الغريب أن الانقسام في مصر ليس وليد مخطط استعماري خارجي، وإنما هو مصنوع من قبل قوى داخلية تغذيه وتراهن عليه من أجل حماية نفسها من تبعات انقلابها غير الشرعي، وعلى حد قول البعض فإن نجاح الانقلاب مرتبط بتعميق حالة الانقسام وتحويل الاختلافات السياسية بين المصريين إلى شروخ وتصدعات في بنية المجتمع وأسس تكوينه.وإذكاء حالة الانقسام تتم من خلال تغذية مشاعر التفوق المصطنع لدى عناصر الفريق المؤيد للانقلاب، وذلك عبر ديباجات من نوعية أنهم هم المصريون الحقيقيون، أصحاب هذا الوطن، وحماة استقلاله، الحريصون على مصلحته وأمنه القوميين، الواقفون ضد المؤامرات التي تحيكها أمريكا وإسرائيل له. وفي الوقت نفسه اتهام الطرف المعارض بأنهم أغيار مقحمون، يحركهم ولاؤهم للخارج، لا تهمهم مصالح الوطن، وليست لديهم غيرة على ترابه، ومستعدون لبيعه والتفريط فيه. ولا يتوقف الأمر عند حد توزيع الاتهامات اللفظية ولكن تتم عملية تعميق الانقسام من خلال إجراءات عملية تتضمن: الاعتقال الجماعي، والقتل العشوائي، ومصادرة الأموال، وحرق المقرات، وتجريم المظاهرات، بل وتشجيع حالات التعدي التي تتم من قبل مناصري الانقلاب على مناصري الشرعية، وإعطاء أحكام بالبراءة أو أحكام مخففة جدا لمن يرفع أمره إلى القضاء من الفريق الأول، وكأن العنف الذي يمارس في هذا السياق عنف مشروع أو محمي بقوة الدولة وأجهزتها السيادية.وتأتي القرارات الأخيرة لحكومة الانقلاب باعتبار جماعة الإخوان جماعة إرهابية لكي تؤكد هذا المعنى، فدمغ فصيل من فصائل العمل السياسي والاجتماعي بهذا الوصف لا يفعل أكثر من أنه يؤكد أساطير مثل التي روجها "أرماند دينيس"، المسؤول الإعلامي للاحتلال البلجيكي، عندما أكد انحدار الهوتو من عرق وضيع وانحدار التوتسي من عرق نبيل. فالآن بقرار سيادي أصبح مؤيدو الانقلاب في موقع أعلى وأرقى من مؤيدي الشرعية، الأمر الذي يعمق من حالة الانقسام ويوفر غطاء رسميا لأعمال العنف والكراهية التي تستهدف المنتمين للجماعة ولكافة رافضي الانقلاب في حقيقة الأمر. وربما تكون الخطوة القادمة في سيناريو الانقسام المجتمعي أن يستصدر الانقلابيون لمعارضيهم بطاقات هوية مختلفة، أو حتى يتم تفعيل نصيحة "خطيب الثورة"، بأن يعلم هؤلاء بطلاء لا تمكن إزالته حتى يمكن تمييزهم عن "المصريين"، توطئة للقضاء عليهم أو عزلهم بوصفهم منحدرين من "سلالة ماسونية صهيونية متطرفة" لا يصلح معها غير أسلوب القبضة الأمنية، على حد وصف المذكور نفسه. الانقلاب إذن يدعم فكرة تقسيم البلاد وفقا لمعادلة جورج بوش الشهيرة "من ليس معنا فهو ضدنا"، ولكن هذه السياسة تؤذن بانقسام لن يستطيع المصريون تحمل آثاره، خاصة أنها تحوي بداخلها بذور دمار محقق للجميع، إن لم يكن الآن فعلى المدى المنظور. فمحاولة حشد التأييد من خلال تغذية مشاعر كراهية الآخر تولد شروخا لا يمكن علاجها. كما أن سيناريو التفكيك سوف يطال أنصار معسكر الانقلاب أنفسهم. وقد بدأت بوادر ذلك بالفعل، فثمة أصوات متصاعدة تحذر من حزب النور بوصفه خطرا محتملا على النظام الجديد، كما أن الطلاق بين فريق العسكر وبين الفريق العلماني يشكل قدرا لم تنج منه أي دولة مرت بنفس الظروف، أما المعسكر العلماني نفسه فسرعان ما ستبرز داخله الخلافات الكامنة. فطالما أن معيار "نحن وهم" قد اختير كأساس للتعاقد الاجتماعي في دولة ما بعد الانقلاب، فإن الاستمرار في تطبيق نفس المعيار لن يتوقف في المستقبل، وبطبيعة الحال سوف يجد المتنابذون أسبابا كافية لإثارة الشقاق فيما بينهم. فهل يدرك القائمون على هذا المخطط التفكيكي أبعاده المظلمة ومآلاته المأساوية، أم أن دفع البلاد إلى الهاوية هو ما يريده هؤلاء النافخون في اللهب؟