18 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ أن بدأ العالم في كسر حاجز الخوف من شبكة الإنترنت، وأعداد الخائضين هذا البحر العميق الواسع يزداد. فريق يبحث عن مراده واحتياجاته خلاله، وفريق ثان يستثمر الشبكة وإمكانياتها في التواصل واسعة الانتشار، وفريق ثالث ورابع وعاشر. فريق من أولئك الخائضين بحر النت هم المدونون، أو أصحاب الأٌقلام أو الكتّاب أو أصحاب الآراء، سمّهم ما شئت، الذين وجدوا في هذا العالم الافتراضي مرادهم عبر الكتابة والتعبير دون قيود مادية صارمة، إلا بعض قيود معنوية على شكل أخلاقيات يتصف بها الكاتب، تتوافق مع قيمه ومعتقداته. بشكل مختصر، المدونة هي صفحة إنترنتية تظهر على موقع من تلك المواقع التي تقدم خدمة التدوين مجانا مثل: موقع "بلوغ سبوت BlogSpot" أو موقع "وورد بريس WordPress" وغيرهما من المواقع، حيث تظهر عليها تدوينات مؤرخة ومرتبة ترتيبا زمنيا، تصاحبها آلية لأرشفة الموضوعات القديمة، ويكون لكل تدوينة عنوان، غالبا ما يدل على شخصية الكاتب، أو محتوى كتاباته، حيث يقوم المدوّن أو "البلوغر Blogger " بنشر أخبار أو معلومات في مجال معين، أو يقوم، وهو الذي عليه أغلب المدونات، بنشر آرائه في قضايا معينة، سياسية كانت أم اجتماعية أم غيرهما، بحسب ميول واتجاهات المدوِّن نفسه. انتشرت المدونات في العالم العربي مع بدايات الألفية الثالثة، وزادت بشكل واضح مع بدء ثورات الربيع العربي أواخر عام 2010 في مصر وتونس، وصارت ساحة للنشطاء، يعبرون فيها عن آرائهم وتعليقاتهم في عمل مواز لما يحدث في الشوارع والميادين من أنشطة تطالب بالتغيير والإصلاح. لكن حين بدأت الأمور تتعقد، وزادت حملات القمع والتنكيل بالمعارضين والنشطاء، حدثت حركة ارتدادية للمدوِّنين، فانتقلت أنشطتهم وفقا لظروف الواقع الحقيقي القاسية والمؤلمة، إلى الواقع الافتراضي الأكثر أمنا وأريحية، فظهرت بالإضافة إلى المدونات الشخصية، منصات عربية، تضم تحت لوائها مدوِّنين من شتى الأنحاء، مثل "هافينغتون بوست، وساسة بوست، ونون بوست" وآخرها وأبرزها مدونات الجزيرة، بالإضافة إلى منصات أخرى مثل "فيسبوك وتويتر" وما شابه. بعد ظهور المدونات على شبكة الإنترنت وانتشارها بشكل ملحوظ، لاسيما في العالم العربي، يمكن القول إن بعض مفاهيم ونظريات الإعلام قد تغيرت، إذ لم يعد الجمهور يرضى بأن يكون جمهورا مستقبلا سلبيّا، ولم يعد القارئ يقبل أن يقرأ ويسمع ما ينتجه ويراه آخرون من دون إمكانية التفاعل معه بشكل ما. لقد تغير الواقع كثيرا، وهو ما يتمثل في كثرة مصادر الإرسال، حيث لم تعد المصادر الإعلامية الحكومية أو بعض الخاصة هي الوحيدة على الساحة التي تنشر وترسل ما تريد وفق سياساتها وتوجهاتها، فتنوعت اليوم مصادر الإرسال، فترى الحكومية والخاصة والحزبية والتجارية والفردية أيضًا. وقد تحول المدوِّنون إلى صنَّاع للرأي والتوجهات في المجتمع، بعد أن كانوا يتلقون الرسائل تلو الأخرى من المصادر الرسمية المعروفة عبر الصحف الحكومية والمدعومة، بالإضافة إلى التلفزة والإذاعة الرسميتين، تدعمها جميعا وكالات أنباء رسمية. ولم يعد المواطن هو ذاك المستقبِل للرسائل الإعلامية من دون أن يؤثر فيها، بل تحول هو نفسه إلى مرسل وغيره يستقبل.. فلقد عززت المدونات مفهوم المواطن الصحفي. ذلك أن أي مواطن اليوم يملك بعض مهارات التحرير والتعامل مع الشبكة، ويكون صاحب فكر أو توجُّه ما، فإن بإمكانه اليوم أن يتحول إلى مصدر إعلامي مستقل، يكتب وينشر وينتج الرسالة الإعلامية الواحدة بعد الأخرى. لقد عملت المدونات على كسر حاجز نفسي طال طويلًا في أمكنة عديدة حول العالم، وهو حاجز الخوف من الجهات الرسمية، أو الجهات المجتمعية المختلفة. كما عملت على فتح الباب واسعًا أمام التعبير عن الرأي، بأي صورة يرغب فيها المدوِّن، حتى لو اضطر للكتابة باسم مستعار لحين من الوقت، لأنه غالبًا لا يهدف إلى النشر رغبة في شهرة ونجومية، بقدر الرغبة في إيصال صوته ورأيه إلى جهات معينة، وقد دعته ظروف ما إلى إبداء رأيه عبر مدونته. مثلما ألغى الإنترنت الحواجز الجغرافية، فكذلك فعلت المدونات، حيث ألغت حواجز الزمان والجغرافيا، وفي الطريق أيضًا ألغت قيود اللوائح والقوانين المتعددة، فلم يعد هناك ضابط ولا متحكم فيما يكتبه المدوِّن، إلا ما يمليه عليه دينه وضميره وأخلاقياته وأمانته، كما أسلفنا.. وعلى الرغم من أن فكرة المدونات بدأت غربية، بحكم الأسبقية في دخول المجال الرقمي، فإنها لاقت رواجا واسعا في العالم العربي أيضا، لأن موانع وقيود إبداء الرأي كثيرة، فراقت لكثيرين فكرة المدونات، التي فتحت آفاقًا كثيرة ومجالات للتنفيس والإبداع كذلك. من تجربتي الشخصية في عالم التدوين، أجده فتح آفاقًا جديدة في عالم الإعلام. فقبل عصر الإنترنت وظهور التدوين الإلكتروني، كان يوجد حراس البوابة، الذين يقومون بالرقابة على إنتاجات الصحف، بما فيها مقالات الرأي، والموافقة على نشر ما يرونه صالحا للنشر وفق سياسات رسمية معينة، ومنع ما يخالفها. هؤلاء الحراس ما عاد لهم موقع في عالم الإنترنت والتدوين. ولقد نشرت عبر مدونتي الشخصية بعض الآراء التي لم تكن تجد الموافقة على النشر في الصحف الرسمية، أو كانت عُرضة للتعديل. فكانت المدونة هي الموقع الذي أنشر فيه ما أريد، من دون رقابة عقل آخر على آرائي، سوى ضميري ورقابتي الذاتية، التي بالطبع لم تكن لتتصادم مع توجهات مجتمعية أو حكومية بشكل كبير، الأمر الذي أتاح لي مجالًا لتنويع مجالات الكتابة، وعدم تضييق المجال على نفسي والكتابة في موضوعات معينة بحسب سياسات الجهة التي أكتب لها. إذن، يمكن القول مرة أخرى إن المدوِّن يصنع الرأي، ويصنع إعلامًا جديدًا غير مسبوق، على الأقل في عالمنا العربي، حيث غالبية الجمهور هو جمهور متلقٍّ للخبر والمعلومة والرأي. وبهذا المفهوم يمكن القول إن المدوِّنين هم صنَّاع جُدد للإعلام. وليس غريبا أن تتحول المدونات إلى مواقع للرصد من قِبل الحكومات في العالم المتقدم، كما في الولايات المتحدة وأوروبا، والرصد هنا ليس رصدًا لأمور سلبية كما هو الشائع، بل هو ذاك الرصد الذي يهدف إلى التعرف على توجهات الرأي العام.