14 سبتمبر 2025

تسجيل

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (6)

07 ديسمبر 2014

تحدثنا في هذه السلسلة من المقالات عن أسباب طرح الموضوع علنياً وبصراحة، وعالجنا بعض الشبهات الرئيسة التي تُقدم لعدم تفعيل ثورة في فهم الإسلام في سوريا، وفي مقدمتها الخوف على الإسلام نفسه. ثم عَرَضنا واقع الإسلام في البلد قبل الثورة، وكيف كانت طُرقُ فهمه وتنزيله على الواقع مقدمةً طبيعية لتغييب كثيرٍ من معانيه الكبرى، وضربنا مثالاً مُعبراً على تلك القضية يتمثل في الموقف التقليدي السائد من (الدنيا) في التراث وفي المدونة الفقهية التقليدية.أما اليوم، فسنبدأ بتبيان أثر ذلك التأويل التقليدي التاريخي في صناعة الواقع السوري خلال السنوات الثلاثة الماضية، وكيف ساهم هذا التأويل، تحديداً، في فشل من تصدروا للحديث باسم الإسلام، في المجالات السياسية والعسكرية والشرعية. فَشَلهم، ليس فقط بإظهار أي نموذجٍ حضاري لقيادة الثورة ينبثق من الفهم الإسلامي، بل ووقوعهم في أخطاء كبرى يمكن إضافتها لأسباب وضرورات ظهور الثورة التي نتحدث عنها في الإسلام في سوريا.ففي المجال السياسي، من المعروف أن الإسلاميين، على اختلاف تسمياتهم التنظيمية، كان لهم تأثيرٍ كبير، وأحياناً طاغٍ، في تشكيل وتسيير الهياكل العاملة في ذلك المجال، وتحديداً في المجلس الوطني ثم الائتلاف، بل يمكن التأكيد أن اليد الطولى كانت لهم على الأقل منذ تاريخ تأسيس المجلس الوطني نهاية 2011م إلى منتصف 2013م.لم يكن من هموم السياسيين الإسلاميين السوريين البحثُ، في سياق المسار الثوري، وفي تلك الفترة (الذهبية) نسبياً، عن منظومةٍ سياسية بالمعنى المنهجي للكلمة، تكون منسجمةً مع منطلقات الإسلام الكبرى، وصالحةً، في نفس الوقت، لتنظيم الحياة السياسية في بلدٍ مثل سوريا. فالمنظومةُ تلك كانت جاهزةً في القرآن، أو في الأذهان، لدى البعض. أما لدى (الإخوان المسلمين) فقد كانت موجودةً على شكل وثيقةٍ أصبحت في غاية التشويش من كثرة (القص) و(اللصق)، وبأمثلة تستعصي على الحصر، نضرب منها مثالاً واحداً تقول فيه الوثيقة: "الدولة الإسلامية هي ما نُطلق عليه الدولة (الحديثة) بالصيغة التي نقدمها في مشروعنا هذا، وليست بالدولة (الثيوقراطية) ولا هي بالدولة (العلمانية)".وبشكلٍ عام، نعرضُ تفاصيله في مقامٍ آخر، تعامل الإسلاميون مع السياسة أساساً على أنها ساحة مناورات داخلية بين العاملين في الحقل السياسي المُعارض، وأنها فضاءٌ لإقامة التحالفات وتغييرها وصولاً إلى تحقيق هدف أساسي هو السيطرة على الهياكل السياسية، بحيث أصبح هذا الهدف هو الهاجس الأكبر. وبمعزلٍ عن امتلاك القدرة على توظيف هذه الهياكل لتحقيق الأدوار الحقيقية المطلوبة منها.وحتى فيما يتعلق بالثورة ذاتها، لم يكن وضع المخططات المنهجية، التي تُمكِّن الهياكل المذكورة من خدمتها وتحقيق أهدافها، أمراً ذو أولوية، هذا فضلاً عن افتقاد القدرة على صياغة مثل تلك المخططات ابتداءً. وبهذا الفهم وتلك الأولويات، صار عادياً أن تَظهر (البراجماتية) في أكثر تجلياتها بُعداً عن القيم الإسلامية، وباتَ طبيعياً أن تُبررَ الغايةُ الوسيلةَ أياً كانت. وأن يسير العمل بنوايا يتم إقناعُ النفس، والقواعد، بها، تؤكدُ على ضرورة استمرار السيطرة والتحكم بالهياكل السياسية الحالية بأي طريقة في هذه المرحلة وإلى أن يتم إسقاط النظام، ثم يُمكن، في نظر القيادات، (استعادة) القيم الإسلامية بعد استخدام السيطرة الحالية لتأمين سيطرةٍ مستقبلية، ويمكن (استدعاؤها) آنذاك لتأكيد الصفة الإسلامية للعاملين.لا يُظهر هذا التحليل الوجه الأخلاقي السلبي لأزمة الجسم السياسي الإسلامي فقط، بل يُظهر أزمةً أخرى على مستوى الفكر السياسي الذي يختزل مفهوم السياسة وممارساتها في مثل الدوائر المذكورة أعلاه من النشاطات (مناورات داخلية – تحالفات متقلبة من النقيض إلى النقيض – شراء ولاءات). فهنا يغيب مفهوم تفكير رجال الدولة الذين يمتد اهتمامهم، عادةً، إلى إدراك المجالات الواسعة في مهمة قيادة الأمم والشعوب، ويُستفرغ جهدهم في فهم التعقيد البالغ للوضع السوري، وفي إيجاد الرؤية الإستراتيجية للتعامل معه، وبالتالي، إيجاد الآليات المطلوبة لتحقيق ذلك الهدف. وإن صحﱠ هذا في وقت السلم فإنه أولى بالاعتبار في ظرف الثورة الاستثنائي، فحجم المهمات والوظائف السياسية التي يُطلب تغطيتها يُصبح أوسع وأكثر تعقيداً، ودرجة الجهد والتخطيط والإحاطة لإيجاد الرؤى ورسم السياسات ووضع الهياكل المطلوبة تكون أكثر إلحاحاً.كيف نربط هذه الظاهرة بالتأويل التقليدي للإسلام الذي كان سائداً قبل الثورة؟ سنجد جذورها فيما تحدثنا عنه سابقاً حين ذكرنا أنه "كان نادراً جداً أن يكون الدينُ عِلماً وتخطيطاً وتنميةً وإدارةً وتنظيماً وفهماً للعالم واهتماماً بالشأن العام وتركيزاً على قراءة سنن إعمار الأرض، بينما كان شائعاً جداً أن يكون الدينُ كماً هائلاً من فتاوى ودروس ومواعظ تُركز على كل ما هو شخصي ورمزي وشعائري، بمعنى أن الجهد كان قليلاً لربط الشخصي بالعام ولربط الرمزي والشعائري بالمقصد والمناط على مستوى وجود جماعة بشرية في إطار (دولة). بل إن تلك الفتاوى والدروس والمواعظ رسَّخت في المجتمع السوري، على درجات متفاوتة، قيماً لا تمت بصلة إلى أصالة الإسلام وتعاليم القرآن، حصل هذا في مواضيع أساسية كثيرة، منها على سبيل المثال فقط: قضايا المرأة، العلاقة مع الآخر، الموقف من العقل، الموقف من العلم، حرية المعتقد، الابائية والتقليد، تحويل الإسلام إلى شريعة اصر وأغلال، تفسيرات الولاء والبراء، تقديس اجتهادات البشر، الإيحاء بأن تعظيم الخالق يزداد بتحقير الإنسان.. وجرى أثناء ذلك الخلطُ بين الكُليات والجزئيات، والأصول والفروع، والثوابت والمتغيرات".كان هذا هو (الإسلام) الذي نَزَّل الإسلاميون السوريون معانيه ومقتضياته على المسار السياسي، وكان بعضهم، على الأقل، مُخلصاً جداً، ليس فقط في إيمانه بهذا الإسلام، بل وفي قناعته بأن صالح سوريا وثورتها يكمنان فيه.ليست المسألة إذاً، عند الغالبية العظمى من الإسلاميين السوريين، مسألة نيات (خبيثة) و(أجندات) مستترة، وفي اعتقادي أنه لو كان الأمر كذلك لربما كانت المعضلة أهون، لأن المشكلة كانت ستبدو أوضحَ للكثيرين، وهذا لا يتناقض مع حديثنا عما أسميناه أعلاه "الوجه الأخلاقي السلبي لأزمة الجسم السياسي الإسلامي"، وربطه بالممارسات البراجماتية التي غلبت عليه، كما قد يلوح للوهلة الأولى.ففي ظل طغيان ذلك التأويل المشوه للإسلام وتعاليمه، ومع وجود قناعةٍ عقلية راسخةٍ بأنه يحقق مصلحة البلد والثورة، وحماسٍ نفسيٍ جارف يُصاحبُ تلك القناعة، وفي غياب أدواتٍ فكرية وثقافية تسمح بالمراجعة والنقد الذاتي والانتباه لحقيقة ما يجري، تشكل المعادلة المثالية لظهور (البراجماتية) سبيلاً رئيسياً للعمل السياسي وللوصول إلى الهدف، بكل ما يترتب عليها من مشكلات، وهذا ما حصل إلى درجة كبيرة في نهاية المطاف.