01 أكتوبر 2025

تسجيل

الجزيرة بقعة ضوء لأحرار العالم

07 نوفمبر 2021

لطالما سألتُ نفسي: هل اقتصرت قناة الجزيرة منذ انبعاثها على تغيير الفضاء الإعلامي العربي؟ أم إنها وضعت بصمتها في تغيير نمط تفكيرنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخر في وقت واحد؟ وكثيرا ما قفزت إلى ذهني قصة الكهف لأفلاطون، وأجراس السؤال تقرع على امتداد السنوات. لقد روى أفلاطون على لسان معلمه سقراط كيف ظن مجموعة من السّجناء المقيّدين في الكهف، وخلفهم نارٌ ملتهبة، أنهم يرون الحقيقة وقد عكستها ظلالُ الأشياء على السّور. وما إن خرج أحدهم من الكهف حتّى أدرك أنّ الأشياء في الخارج تختلف عن الأشياء داخله. ويمكننا أن نقيس هذه الأمثولة على واقعنا العربي والدولي بعد أنْ ظهرت الجزيرة، فخرجت من الكهف الإعلامي لتكتشف الحقائق وتنقلها إلى الرأي العام العربي والعالمي. لم يعد بالإمكان طرح سؤال الهويّة: من نحن؟ ومن هو الآخر؟ بعيدًا عمّا قدّمته الجزيرة من إجابات وفرضيّات وتصوّرات عن هذين القطبين. فنحن نعرفُ اليوم أكثر من ذي قبل منْ نكونُ بواسطة الجزيرة. المجتمعات التي عاشت الاستبداد تعلم جيّدا مدى تقديرها وبحثها عن الكرامة الإنسانيّة بفضل ما قدّمته الجزيرة، والرأي العام العربي تعلّم معنى أن يكون للفرد حرية الرأي والاختلاف مع غيرهِ حين وسّعت الجزيرة من أفق "الرأي والرأي الآخر". وفي الضفة الأخرى، أدرك الآخر بثقافاته المختلفة، من نكونُ، ومن يكونُ في نظرنَا، حينَ فرضت الجزيرة مقاربات جديدة للواقع العالمي ولقضايا الإنسان العربي من وجهة نظر عربيّة خالصة. وأزعم أني عايشت الجزيرة منذ أن كانت فكرة ثم رؤية ثم واقعا، ولذلك أعي بشكل قاطع كيف كان الوضع العربي والدولي قبل الجزيرة، وما التأثير الذي أحدثته، وردود الفعل التي ترتبت عليها، والواقع الذي فرضته بعد ولادتها، والمقاومة العنيفة لأعداء القيم التي حملتها الجزيرة، ثم المحاولات لخلق منافسات لها، والدور المميز الذي تقوم به في خدمة الكلمة الحرة والمعلومة الصادقة وخدمة قضايا العدل والحرية والمساواة وتقرير المصير والوقوف إلى جانب هذه القضايا. كنت وزيراً للإعلام حين أنشئت الجزيرة، وكانت بلادي، بقيادة الأمير الوالد صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد آنذاك، قد اختطت خطا واضحا في تبني حرية الإعلام والوقوف إلى جانب القضايا العادلة. كانت هذه القيادة مدركة لأهمية رفع القيود عن الإعلام ليتمكن من أداء دوره في التنمية ودعم قضايا الحق والعدل. وأشير بصورة خاصة إلى الحرب اليمنية الداخلية عام 1994 التي سعت إلى فصل عرى الوحدة بين الشمال والجنوب، تلك الوحدة التي تحققت عام 1990. كـانت قطر - من منطق مصلحة اليمن ومصلحة المنطقة - حريصة على تعزيز الوحدة، واتخذت موقفا سياسيا داعما لوحدة اليمن. من الطبيعي أن يكون الإعلام أحد أسلحة هذا الدعم، وقد حاولنا ولكن ظلَّ إعلامنا دون مستوى آمال سياساتنا. وأعتقد أنّ هذا الحدث وإدراكنا للفجوة بين واقع إعلامنا ورهانات سياساتنا مثّلاَ الدافع إلى التفكير في إنجاز مشروع إعلامي يتخطى التقليدية ويصبحُ نقطة انطلاق في تاريخ الإعلام العربي والدولي. وأشير إلى فكرة حل وزارة الإعلام التي رأى صاحب السمو أمير البلاد آنذاك إلغاءها لارتباط هذه الوزارة آنذاك في عالمنا بخنق الحريات. ألغيت الوزارة بالفعل عام 1995، ومنذ ذلك التاريخ لا وزارة إعلام في دولة قطر، وكان هذا إرهاصًا من إرهاصات بزوغ فجر جديد للإعلام يتخطى الطابع التقليدي ويشكل إيذانا بولادة عصر جديد للإعلام في منطقتنا ومن الإرهاصات والتي تمثل سعي قيادة دولة قطر لخلق واقع إعلامي حديث ومؤثر، ما شهدته إذاعة قطر حين كان للراديو تأثيره وقدرته على تخطي الحدود أكثر من التلفزيون، هو ولادة برنامج "قضايا وآراء" وهو برنامج حواري غير تقليديٍّ، وكانت إذاعة قطر أكثر الإذاعات سماعا في منطقة الخليج العربي بصورة خاصة والعالم العربي بصورة عامة، وقد طُلب منّي أن أقدِّمَ للقيادة تصوُّرا عن هذا البرنامج، وكلَّما قدَّمت تصوُّرا قيل لي: "إنه غير كاف ومطلوب هامش أكبر من حيث هامش الحرية وفي نوع الموضوعات التي تتمُّ مناقشتها"، حتى توصّلنا إلى صيغة متقدِّمة جدًّا وجريئة للغاية وغير مسبوقة. وبدأ البرنامج في عام 1994 وكان المشاركون يتردَّدون في البداية خوفا، ثم تجرَّأوا، وأصبح البرنامج نقطة تحوّلٍ من حيث موضوعاته والمشاركين فيه والإقبال عليه، وكان شعار البرنامج كلمة الإمام الشافعي المعروفة "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". وفي مهمَّة لي في بداية عام 1995 في الرياض للمشاركة في مؤتمر وزراء إعلام دول الخليج، وقد كانوا على علم أن هذا آخر مؤتمر أحضره كوزير إعلام لدولة قطر، وكانت الجلسة تشهد مداخلات لتوديعي وإذا بأحد وزراء الإعلام الخليجيين رحمه الله يتدخل ويقول: "لنا طلب أخير عندك قبل أن تترك، وهو أن تلغي برنامج قضايا وآراء في إذاعة قطر فقد أزعجنا كثيرا بهامش الحرية المتاح له وبموضوعاته التي يطرحها". أجبته - غفر الله له -: "لا أستطيع أن أعدك بهذا، بل أعدك بما هو أهم، إن هذا إلاّ بداية والخير قادم" وها هي الجزيرة تولد وتنمو كشجرة طيّبة شامخة تزداد تألقا، وتُثمرُ كلما ازدادت التَّحديات. لقد نجحت الجزيرة في إقامة الجسور، لا بين المواطن العربي وحقائق ما يدور حوله فقط، بل وجسور التواصل بيننا وبين الآخر، وبرهنت للعالم أنّ العربي، متى أراد أن يبدعَ وينجز، فإنّه قادر على ذلك، لأنّه سليل حضارة تؤمن بالعلم والعمل وتدافع عن كرامة الإنسان أينما كان، وتلك الرسالة الخالدة لديننا الحنيف. لقد حققت الجزيرة خطوات عملاقة في هذا الطريق، ومن حقّنا أن نفخر بدورها على امتداد ربع قرن. إن دور (الجزيرة) وتأثيرها ليس مقصورا على العالم العربي ولغة الضاد، بل تخطاه إلى اللغة الإنجليزية وإلى حد ما إلى لغات أخرى، ولا يغيب عن بالي أثناء حملتي لليونسكو في إفريقيا عام 2017، أن اتصل بي رئيس إفريقي ذو مكانة مرموقة وطلب مني أن أزوره في بلده، وهي من الدول التي لم أسع لزيارتها لأنه لا صوت لديها أسعى إليه. كانت آنذاك الحملة لإيقاف الجزيرة على أشدها وذهبت وزرته لأجد أن هدفه هو رسالة إلى القيادة القطرية «أننا في إفريقيا نعتمد على الجزيرة، فلا تلتفتوا لدعوات إسكاتها بل تمسكوا بها وكانوا فخورين بها". وأخيرا وليس آخرا، فإننا نعتز بنقل الجزيرة الأمين والشجاع لانتفاضة حي الشيخ جراح والأقصى وصمود غزة الأبية. تحية للجزيرة وتحية لقيادات قطر الشجاعة الداعمة لها وللعقل المبدع والمقدام الذي كان وراءها فكرة ورؤية وواقعا، ولقيادتها وإدارتها ولطاقمها المبدع والمعطاء. نائب الرئيس والعضو المنتدب في شبكة الجزيرة الإعلامية