17 سبتمبر 2025
تسجيلصحيح أن السياسة الخارجية الأمريكية لها ثوابت لا يحيد عنها رئيس سواء كان ديمقراطيا أو جمهوريا، ومع ذلك هناك سمات بعينها تميز كل إدارة عن غيرها. لكن الإدارة الأمريكية الحالية مع كونها إدارة ديمقراطية، بدت وكأنها تنتهج سياسات أقرب للإدارات الجمهورية. على مدى 8 سنوات (2009 – 2017) حاول الرئيس الديمقراطي باراك أوباما رسم مسار جديد للسياسة الخارجية الأمريكية عقب سنوات عاصفة من إدارة الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، التي وضعت الولايات المتحدة على شفا انهيار مالي، ووسعت فجوة عدم الثقة والعداء بين العديد من الشعوب والمجتمعات حول العالم. فقد اعتمدت إدارة بوش على امتلاك أحادي للقوة الشاملة لتدعيم هيمنة الولايات المتحدة عالميا. بكل تأكيد لم تعتمد عقيدة أوباما في السياسة الخارجية على القوة العسكرية الغاشمة، لكن في نفس الوقت قد نكذب إن قلنا إنها كانت تعتمد على القيم الأخلاقية المجردة، وكان أوباما يعتقد أن الأجيال السابقة لم تسقط الفاشية والشيوعية بالصواريخ والدبابات فقط، بل بالتحالفات المتينة والقناعات البينية المستديمة، وأعداؤنا يفهمون أن قوتنا وحدها لا تستطيع حمايتنا، ولا تخول لنا القيام بما نريد"، عليه فإن أوباما كان واقعيا، لا مثاليا. ولم يستخدم أوباما القوة ضد فلاديمير بوتين في أوكرانيا، لاعتقاده بأن أوكرانيا ليست حليفاً لأمريكا، وأن رهانات روسيا في مستقبل أوكرانيا أكبر من رهانات أمريكا. فاكتفى بإجراءات اقتصادية محدودة. لكن الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن ورغم أنه ديمقراطيا من نفس حزب أوباما غير أنه بدا في سياسته الخارجية أقرب للجمهوريين أو في أحسن الأحوال بدت سياسته مضطربة ومتأرجحة تصب في ناحية تأجيج بؤر الصراع الدولية وفتح جبهات مواجهة في أكثر من صعيد. لقد أظهرت إدارة بايدن فيما يتعلق بأزمة الغاز في أوروبا بسبب الحرب في أوكرانيا، رأسمالية متوحشة، ففيما تعصف بأوروبا أزمة طاقة جراء خفض روسيا لإمداداتها من الغاز والنفط، أعلنت الولايات المتحدة أسعاراً اعتبرتها ألمانيا "خيالية" لتوريد الغاز لأوروبا من أجل تعويض وقف شحنات الغاز الروسية. واحتج وزير الاقتصاد الألماني على ذلك بشدة إذ تمثل واردات الغاز الروسي 55% من احتياجات بلاده. وفي ذات الوقت تعاني معظم بلدان القارة من عدم وجود بنية تحتية كافية لمعالجة وإسالة الغاز الأمريكي. وبينما تغالي إدارة بايدن في رفع أسعار الغاز لحليفتها أوروبا أبدت ردود فعل غاضبة قرار مجموعة "أوبك بلس" خفض إنتاج النفط مليوني برميل يوميا بغرض المحافظة على أسعار معقولة، بل أن واشنطن اعتبرت ذلك عملا عدائيا ضدها. مهددة باللجوء إلى تفعيل قانون فيدرالي يتعلق بمكافحة الاحتكارات أو "الممارسات التجارية غير القانونية". وكان من المستغرب جدا أن تصعد إدارة بايدن مع الصين في ظل المواجهة الحالية مع روسيا في أوكرانيا. وجاء التصعيد الأمريكي مع الصين في ملفي تايوان ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، فيما يخص الاتفاق الأمني الأمريكي مع بريطانيا وأستراليا الخاص بتبادل تقنيات عسكرية متقدمة في محاولة لمواجهة النفوذ الصيني في تلك المنطقة. ودعا كل ذلك الصين لأن تعلن بأن التهديد الحقيقي للعالم هو الولايات المتحدة، داعية إلى الاطلاع على قائمة الدول التي قصفتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. وعلقت بكين غاضبة على ما اعتبرته استفزازا أمريكيا لها بسبب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان، وقالت بكين إن هذه الزيارة دمرت أساس الثقة السياسية بين أكبر اقتصادين في العالم. وبدأ شعور متعاظم لدى الصين بأن الوحدة مع تايوان ربما لا يمكن تحقيقها إلا من خلال وسائل عسكرية ولم يكن هذا محل تفكير صيني من قبل. وردت الصين فورا على تلك الزيارة بأكبر تدريبات عسكرية لها على الإطلاق حول تايوان. وتدرب الجيش الصيني لأول مرة على عمليات تهدف إلى حصار تايوان، وهي خطوة ربما تمهد لأول مرة للقيام بغزو. ولعل التقاطع الكبير في ملف تايوان يكمن في مضيق تايوان، ففيما تؤكد بكين سيادتها على المضيق تقول الولايات المتحدة وتايوان إنه ممر مائي دولي. ولعل التدريبات التي قامت بها الصين في المضيق قصد منها تغير الوضع القائم الذي حدده الأمريكيون في الأصل. ولعل مغامرة زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي جاءت على حساب نهج في الحزب الديمقراطي ظل أحد أهدافه الكبرى، فقد علقت الصين التعاون مع الولايات المتحدة في مجالات تشمل تغير المناخ وعمليات مكافحة المخدرات، بسبب تلك الزيارة لتايوان. ويعد البلدان أكبر مصدرين للتلوث في العالم، وكانا قد تعهّدا العام الماضي بالعمل معا عبر اجتماعات منتظمة لحلّ أزمة التغيّر المناخي. ولعل الملف النووي الإيراني من الملفات التي كان ينتظر أن تحقق فيها إدارة بايدن نجاحا إذ أن الاتفاق النووي في أصله أحد انجازات إدارة أوباما وخرقه الرئيس الجمهوري دونالد ترامب بإعلان الانسحاب منه من طرف واحد. ولم يعجب إدارة بايدن الرد الإيراني الأخير، إذ اعتبرته ردا "يعيدنا إلى الوراء". وبدت إدارة بايدن في هذا الملف منصاعة بالكامل للإرادة الإسرائيلية التي تعارض الاتفاق. وأكثر من ذلك فقد وجه الرئيس بايدن، تعليماته إلى كل الأجهزة المعنية، بأن تكون لديها خيارات أخرى قوية متاحة، لضمان عدم امتلاك إيران لقدرات صنع سلاح نووي، الأمر الذي دعا إيران للتهديد باللجوء إلى "الخطة باء".